لا مؤشرات تدلّ على أن الرئيس السابق للحكومة، سعد الحريري، سيعود إلى بيروت قريباً، إذ إن حذره الأمني تضاعف بعد دخوله رسمياً معركة إسقاط النظام السوري، إلى جانب السعودية. وإلى أن يتحقق هدف الحريري الجديد، يبقى تيار المستقبل مطمئناً إلى الوقائع على الأرض، وإلى الضغط الأميركي
يمكن استغراب الارتياح الذي يعيشه تيار المستقبل. ليس من قلق سياسي أو وجودي، رغم هجرة الرئيس سعد الحريري والخروج من السلطة والضائقة المالية التي يعانيها التيار وتراجع الزخم الشعبي له نتيجة هذه العوامل وغيرها. والحريري، بحسب مصادر قيادية في المستقبل، لن يعود بعد أن ألهب الجبهة مع سوريا، ولن يحضر الإفطار المركزي للتيار، الذي حُدِّد موعده يوم الاثنين في 15 آب في البيال. وبالنسبة إلى الفريق الأمني لدى الرئيس السابق، الأمر محسوم بأنّ «الرجعة» لن تحصل إلا بعد انتهاء الأزمة في دمشق. يضيف الأمنيون أنّ الرئيس الحريري لم يفتح ملف استهدافه ويعلنه «كي لا يكشف من سرّب له هذه الأجواء ونصحه بمغادرة لبنان»، ولو أنّ صاحب النصيحة باتت معروفة هويّته ورواية استهدافه كُشف عنها وتتحدّث عن اكتشاف مجموعة أمنية رصدت تحركاته بين مطار رفيق الحريري الدولي وقصر أيّاس. ويؤكد هؤلاء أنّ الرئيس السابق للحكومة، قبل مغادرته الكاملة لبيروت، ألغى زيارة كانت مقررة للقاهرة بعد انكشاف موعد هذه «الرحلة» ووجهتها نتيجة خطأ تقني قام به عدد من المقربين منه.
إذاً، لماذا هذا الارتياح؟ الجواب: سوريا. فيوماً بعد آخر، تصل إلى مكاتب الحريري معلومات عن الأوضاع على الأراضي السورية، وتسريبات بشأن نقاشات العواصم في الموقف من نظام حزب البعث ومدى قدرته على الاستمرار بهذا النحو.
آخر هذه التسريبات يتعلّق بزيارة وزير الخارجية التركي، أحمد داوود أغلو، لسوريا يوم الثلاثاء الماضي. نتيجة هذه الزيارة دفعت المستقبليين إلى السؤال عن سبب التراجع الغربي في الضغط على النظام و«مسايرته» عبر منحه المزيد من الوقت والفرص. فجاء الردّ من المسؤولين الأميركيين على النحو الآتي: الوزيرة هيلاري كلينتون قامت باللازم بهذا الشأن. وبحسب المجلس المستقبلي، اعترضت الخارجية الأميركية مباشرة وبوضوح على الموقف الذي أعلنه داوود أوغلو بعد زيارته سوريا، ولامته على «أخذ الأمور على عاتقه ومنحه الرئيس بشار الأسد مهلة لإجراء انتخابات بغضون سنتين». وبحسب المسؤولين الأميركيين، ذكّرت كلينتون داوود أوغلو بأنه حُمِّل رسالة «إجراء انتخابات بنحو عاجل»، وهو عكس ما عبّر عنه خلال لقائه الأسد.
أشياء كثيرة تغيرت مذ زار داوود أوغلو طهران في إطار جولة إقليمية كان يفترض أن تشمل سوريا، المحطة التي ألغيت في اللحظة الأخيرة. في خلال وجود داوود أوغلو في العاصمة الإيرانية، حاول أن يستثمر مهاراته الدبلوماسية في محاولة لإقناع الإيرانيين بوقف دعمهم للأسد، على قاعدة أن خطوة كهذه ستخفف من تصلب الرئيس السوري وتجبره على التوصل إلى تسوية «لخير الجميع». مصادر متابعة لمجريات تلك المحادثات تؤكد أن الوزير التركي سمع في الغرف المغلقة كلاماً قاسياً ورفضاً مطلقاً لأي حركة تستهدف ليّ يد الرئيس السوري. وفي الوقت نفسه، وزعت وكالات الأنباء الإيرانية الرسمية خبراً يفيد بأن أجواء المحادثات كانت إيجابية جداً وسادها التوافق. كان داوود أوغلو يأمل أن يصل دمشق وبيده أوراق ضغط يمكن من خلالها مفاوضة السوريين. لكنه لما سمع ما سمع في طهران، التي سبق أن حذرت تركيا بأنها ستكون مضطرة إلى قصف القواعد الأميركية في تركيا في حال استخدامها في إطار أي عمل عسكري ضد سوريا، «أيقنت السلطات التركية أن مقاربتها السابقة للملف السوري كانت خاطئة، وبدأت تعمل على إعادة العلاقات إلى سكتها».
ولعل خلاصة نقاشات المستقبليين مع المسؤولين الأميركيين خير تأكيد لذلك. خلاصات تفيد بأنّ كلينتون تعاملت بــ«قسوة» مع الحكومة التركية «التي حاولت تدوير الزوايا مع السوريين»، فأعادت وزيرة الخارجية الأميركية تذكير داوود أوغلو بالبديل للنظام السوري، وهو الإسلام المعتدل على شكل الوضع القائم في أنقرة. هذه الخلاصة دفعت أحد معاوني الرئيس الحريري إلى الصراخ في مكتبه أمام زملائه «أوه لالا»، ليعبّر بعد ذلك عن فرحته بالإصرار الأميركي على إطاحة النظام البعثي في سوريا.
فإسقاط الرئيس الأسد بات أمراً محسوماً بالنسبة إلى الإدارة الأميركية، ويعبّر مسؤولوها في بيروت عن استحالة استمرار التعاون والتواصل مع النظام السوري «وهو قرار اتّخذ منذ اجتياح العراق ورفض الأسد العروض التي قدّمناها له بين عامي 2002 و2004».
هذه الأجواء تساعد مسؤولي المستقبل على النوم ليلاً، فيعدون أنفسهم بأنّ قريباً ثمة من سيقضي على «الوحش» ويُنتقَل إلى مرحلة أخرى من اللعبة. لكن ثمة ما يجعل المستقبليين يسكرون في ارتياحهم: تطوّر الموقف العربي من النظام السوري، وخاصة البيان الذي صدر عن الملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز. الخلاصات التي يعود بها بعض معاوني الحريري من الخليج العربي تفيد بأنّ «هذه الدول سترفع وتيرة تصعيدها تجاه النظام البعثي»، وأنّ هذا الاتجّاه يأتي بسبب الخوف الخليجي، لا الشعور بالقوة. فهذه الدول، بحسب زوار الرياض، تستشعر الخطر يوماً بعد آخر ولن ترتاح بدورها إلا بكسر «الهلال السياسي الشيعي» الذي ضيّق عليها الخناق في العراق وأخرجها من الملفين الفلسطيني واللبناني.
في المحصّلة، اختار الرئيس سعد الحريري وجهة المواجهة، فعمّمت قيادته على مسؤولي التيار القيام بالمهمات الآتية: تفعيل الدور الإعلامي. فكان أن أخذ الموقع الإلكتروني للتيار دور المتابعة الحثيثة للأحداث في سوريا، وتولت صحيفة المستقبل إعادة فتح ملف «عهد الوصاية» وأوكل إلى تلفزيون المستقبل دور التجييش للمحكمة الدولية والدفاع عنها.
وماذا بعد؟ لماذا لم يتحرّك جمهور المستقبل جدياً لدعم الشعب السوري، بدل عرض العشرات في بلدات البقاع والشمال؟ بتصرّف، جواب المستقبليين في مجالسهم المغلقة يرد على النحو الآتي: «أول رصاصة فعلية بين الطوائف في سوريا، ستلحق بها رصاصة ثانية بين الطوائف في لبنان، وتحديداً في الشمال». جواب يجد أصداءه في نصيحة وجهتها شخصية إقليمية رفيعة المستوى معنية بالملف اللبناني: «راقبوا التجييش المذهبي في لبنان خلال الأيام والأسابيع المقبلة».