ثمة ما يستدعي التدقيق في حقيقة الهواجس الدولية المتنوعة التي برزت عقب زيارة الرئيس الايراني محمود احمدي نجاد للبنان والتي بدت كأنها النقطة التي طفح بها كأس الرصد الدولي للازمة المتصاعدة في لبنان. فإذا كان بعض من يعولون على عودة لبنان اولوية لدى المجتمع الدولي رأوا في زيارة نجاد عاملا ايجابيا لناحية تحريك الحساسية الغربية واعادة ضخها بمصل محيي للاهتمام بلبنان، فان ذلك لا يحجب الجانب الآخر الذي ينطوي على اشهار القلق الغربي من تداعيات ازمة المحكمة الدولية الخاصة بلبنان. وبين الزيارة وايحاءاتها الاقليمية من جهة ومفاعيلها وانعكاساتها الدولية من جهة اخرى لا شيء يوحي لبنانيا بغير الانزلاق الى متاهة "الساحة" التقليدية التي تعود نقطة استقطاب على خط التماس والمواجهة للاعبين العمالقة
قد يكون العامل الايجابي اللافت في هذا الاستقطاب انه يختلف عن حقبات سابقة في انعدام مصلحة اي طرف دولي او اقليمي راهنا في انفجار لبناني من شأنه ان يشعل جبهة شديدة التأثير على الوضع الاقليمي برمته. فلا المحور السوري – الايراني تتملكه الاوهام بتوظيف فتنة سنية – شيعية لبنانية لانها ستؤول حتما الى استنزاف "حزب الله" ولو امتلك معظم ورقة السيطرة "العملانية" والقدرة المسلحة. ولا المحور الدولي – العربي تتملكه المكابرة في تجاهل اثر فتنة على رمي لبنان نهائيا وبالكامل بين فكي المحور "الممانع"
ولذا تكتسب المرحلة الانتقالية الراهنة اهمية شديدة في محاولة رسم ضوابط وموانع وخطوط حمر قبل ان ينزلق الجميع، اسوة باللبنانيين انفسهم، في حرب باردة او ساخنة جديدة ما لم يجر التسليم بالالتزام الطوعي لهذه الموانع. ولعل الامر المثير للاهتمام في هذه المرحلة هو نقطة التقاطع التي تشارك فيها دول عدة لمنح "الجبهة الوسطية" اللبنانية فرصة اساسية للاضطلاع بدور عازل الصدمات بين فريقي 14 آذار و8 آذار. وقد تكون الزيارة المباغتة التي قام بها السفير جيفري فيلتمان، اشهر حاملي الملف اللبناني في الادارتين الاميركيتين السابقة والحالية لبيروت، قد فعلت فعلها العميق في استثارة دفع فرنسي وحتى سوري نحو رموز "الوسطية" او "التمايز"بعدما رسم فيلتمان بوضوح عنوان زيارته باعادة تصويب ميزان القوى المتحكم بلبنان
ومع ذلك فان الحركة المتنامية الجديدة في لقاءات باريس المتعددة الجهة، والتحرك اللبناني – السوري للنائب وليد جنبلاط، والتصور الذي يعده الرئيس ميشال سليمان للنجاة من كأس انقسام حكومي خطير في ملف "شهود الزور"، تبدو محفوفة بالكثير من الشكوك لان ازمة المحكمة لم تعد محصورة بالمحكمة ومراحل عملها فقط بل اتسع اطارها الى الابعد والاخطر وهو اقحام الحسابات الاقليمية والطموحات النفوذية الاستراتيجية في الازمة الداخلية المتأتية عن العد العكسي لصدور القرار الظني في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري
وما يرجح كفة الشكوك على فرصة اقامة موانع وضوابط وخطوط حمر، هما استحالتان بات على الجميع تجنب الخطأ في مقاربتهما. فثمة استحالة لحمل الاسرة الدولية على المساومة على المحكمة مهما بلغت كلفتها
وثمة استحالة لحمل المحور السوري – الايراني على التراجع عن دعم كل ما يؤدي الى تقويض مفاعيل المحكمة. واذا كانت الفتنة لا تشكل "مصلحة" لأهل الاستحالتين، فان ثمة في "الساحة" اللبنانية مسارب اخرى لا يتوجب اسقاطها من المخاوف ولاسيما منها ساحة الجنوب في تداعياتها البعيدة المدى.