لا يزال فريق رئيس الحكومة من تيار المستقبل و14 آذار يراهن على أن الوقت سيأتيه بالحل من خارج البلاد، وأن العلاقات السورية السعودية التي لم تشفَ بالكامل، ولم تصل الى نهاياتها المنشودة في العراق وفي لبنان، يمكنها أن تعيد سوريا الى الوضع الهشّ، ذلك الذي قال النائب وليد جنبلاط إنه سبق أن مرت به البلاد في 17 أيار 1983، والذي انتصرت فيه، والذي ستنتصر اليوم أيضاً في مواجهته. الرئيس سعد الحريري يقول أمام المقرّبين إليه إن «الخارج (الذي تشكّل حركة قوى 14 آذار الصدى له) يريد منه كسب الوقت، بانتظار ما هو مقبل من تطورات، عنوانها الأكبر المحكمة الدولية». لكن إحدى نقاط ضعف رئيس الحكومة هي تعدد ولاءاته الخارجية، فهو الذي يعدّ في المملكة من التابعين للأمير عبد العزيز بن فهد، وليس من ضمن المحظيين لدى الملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز، ولا من المحبّبين لدى قناة الاتصال السعودية مع دمشق بقيادة عبد العزيز بن عبد الله، وهو يمكن أن يكون في لحظة قريباً من جناح الأمير سعود الفيصل وزير الخارجية، لكنه ليس من البطانة الفعلية هناك
الى السعودية، هناك تقاسم حصص في عقل سعد الحريري وسلوكه، تحصل على جزء منها الإدارات المتعاقبة على البيت الأبيض ووزارة الخارجية، وهناك حصة لفرنسا، الدولة التي كان جاك شيراك رئيسها السابق، موظفاً بالقطعة لدى والد سعد الحريري، وأصبحت اليوم تتقاسم النفوذ عليه، وهناك حصة مصرية طبعاً لها عرابوها ومنتفعوها
لكن سعد الحريري بات يعلم أن أقصى ما يمكنه الحصول عليه هو الحكم بصفة رئيس مجلس الوزراء، وهو الى اللحظة لم يتمكن من ممارسة الحكم، والأموال التي يمكن أن يحصّلها لم تصل إليه، والمشاريع القائمة التي تدرّ عليه وعلى مجموعة من المقربين إليه، وعلى الخلّص من رفاق والده، هذه المشاريع نفسها عرضة للمساءلة اليومية لإعادة النظر فيها، ما يبشّر في لحظة ما بانهيار ما بناه الوالد في البلاد من شبكة مصالح تضمن النفوذ السياسي له، وتسهل له عملية التحكم بالبلاد ورقاب العباد.
كسب الوقت هو العنوان، الذي يمكن أن يُفهم من تأجيل جلسة مناقشة تحويل ملف شهود الزور الى المجلس العدلي، وكسب الوقت هو الرهان الأخير لدى سعد الحريري وفريقه الذي يعلم أن اللقاء الأخير بين موفد سعودي والرئيس السوري بشار الأسد لم يكن بغاية الإيجابية، وخاصة أن المملكة أشارت الى انزعاجها من لقاء الأسد ونوري المالكي الذي تضمنه موافقة سوريا على تسمية المالكي رئيساً للحكومة العراقية، وأشارت المملكة الى أن المالكي «تمّ تعيينه من الفرس» لرئاسة الحكومة في العراق
لكن قبل زيارة المالكي الى سوريا، كان بشار الأسد قد اتصل بالملك السعودي. وأشار خلال الاتصال الى أن المالكي هو الضمانة للعراق، وهو الضمانة لحصة السنّة في العراق، ولدورهم فيه، وأبدى الأسد حينها رغبته في لقاء الملك عبد الله وهو ما حصل، وعلى مدى ساعة وخمسين دقيقة في الرياض، واللافت حينها أن الملك لم يشر الى لبنان لا مباشرة ولا مداورة، ما حدا بالرئيس السوري الضيف الى عدم مفاتحته بالموضوع، لياقة منه وكي لا يحرج مضيفه السعودي الذي ربما لا جديد لديه في هذا المجال
وفي صباح يوم 21 تشرين الأول الجاري، استفاق رئيس الحكومة السورية محمد ناجي عطري من النوم، واستدعى (فجأة ودون سابق تحضير) صحافياً في جريدة الرأي الكويتية حيث يقوم بزيارة رسمية، وأبلغه أن «قوى 14 آذار هي هيكل من كرتون»، علماً بأن عطري لم يسبق له أن أدلى بإشارة حتى الى العلاقات اللبنانية السورية منذ 18 تموز من العام الجاري، حين قال إن المأمول من زيارة سعد الحريري الى سوريا إعادة اللحمة الى العلاقات اللبنانية السورية. في سوريا من يعرف أن سعد الحريري يسعى الى كسب الوقت، ومن يعتقد أنه أكثر هشاشة من هيكل كرتوني، وأن تركه يحكم كما يفعل الآن لن يؤدي الى تصلبه، أو اتخاذ خيارات جدية، ولو معادية، وأنه بهشاشته سيترك مجالاً واسعاً للغربيين من أميركيين وأوروبيين ومعهما إسرائيل لتغطية الانسحاب من العراق والتراجع في أفغانستان، وانعدام القدرة على السيطرة على الملفات الرئيسية، يمكنهم أن يستخدموا أشخاصاً هشّين كسعد الحريري وما بقي من قوى 14 آذار لتغطية كل ذلك في لبنان، خاصرة سوريا الرخوة دائماً وأبداً، وبالتالي فإن في سوريا من يعتقد أنه آن الأوان لطيّ الهيكل الكرتوني وإعطائه حجمه الفعلي ككدسة من الورق المقوّى
كما في سوريا، كذلك في لبنان وفي أوساط قريبة من المعارضة السابقة من يعتقد أن الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، يعطي قوى 14 آذار أكثر مما تستحق من الوقت، ومن النفوذ، ومن الفرص، ويغضّ الطرف عن مناوراتها، ويترك لها أن تتعامل مع الخارج كما تريد وتشاء، وصولاً الى ترك الحبل على غاربه لكل من يخرج على الناس عبر الإعلام ويتحدث لا عن العمالة فحسب، ولكن أيضاً عن تقسيم هذا البلد الصغير
وفي سوريا وفي المعارضة السابقة في لبنان من أبدى اعتقاده بأن محاولات رئيس مجلس النواب نبيه بري ذهبت هباءً منثوراً، وكل الوقت الذي اعتمد فيه بري الصمت لم يوصل الى مكان، وحين شعر بري بأهمية تحركه (وليس من دون تلقّيه إشارات متعددة في هذا المجال) تصرف من دون التنسيق مع أي طرف محلي، وأن الموعد الذي كان سبق أن طلب من سوريا جرى تحقيقه بعد سنة وشهرين تقريباً، فجلس الرئيس بري الى يمين الرئيس الأسد.
وفي لبنان، كما في طهران، كما في سوريا من بات يعتقد أن المطلوب اليوم لم يعد محاكمة شهود الزور، وخاصة أن المماطلة في هذا الملف أكدت للمعنيين مباشرة بالمحكمة الدولية أن الفريق المحلي في لبنان ليس بغاية البراءة كما يدّعي، ولا هو طفل لا يدري ما الذي يحصل حوله من لعبة الأمم، بل هو طرف يمتاز بخبث كاف كي يحاول، وهو الطرف الضعيف، أن يمرر لدول كبرى مصالحها في المزيد من محاصرة طهران وإحراج سوريا لإسقاطها، وعزل حزب الله في لبنان تمهيداً للقضاء عليه (سواء أكان عسكرياً عبر ضربات إسرائيلية أم مدنياً عبر إقناع سوريا بالتخلي عن علاقتها الاستراتيجية بإيران، وتالياً التخلي عن علاقتها بحزب الله المتهم باغتيال رفيق الحريري)
وطالما أن هذا الطرف اللبناني متورط في لعبة أكبر من حجمه بأضعاف مضاعفة، فإن المطلوب لم يعد مجرد محاكمة شهود الزور، بل ليس أقل من إسقاط الوسيلة التي تعتمد للوصول الى المزيد من محاصرة إيران وإحراج سوريا والقضاء على حزب الله، أي المحكمة نفسها. وبدل أن يتجاوب رئيس الحكومة اللبنانية مع مطلب بسيط وسهل كتحويل ملف شهود الزور الى المجلس العدلي والمحاكمة، ها هو اليوم سيواجه مطلباً لا يطيق التفكير فيه ولا تحمل تبعاته
وفي السياق الذي تعمل عليه الدوائر الغربية، والذي يتردد صداه بقوة لدى حزب الله ودمشق وطهران، هو محاولة البحث عما ستكون ردة فعل هذه الأطراف في حال صدور القرار الاتهامي، مشيراً بالإصبع الى حزب الله، وعما سيحصل في الشارع السني، ولدى الشارع المسيحي في لبنان. وكالعادة، فإنه كلما مرت البلاد في محطة من هذه المحطات يتم إرسال الدبلوماسيين والجواسيس والباحثين من المستشرقين لدراسة ردود الفعل والاحتمالات الممكنة لتطور الصراع المزمع إحداثه في المنطقة ومواقف الأطراف، فهل سينتفض كل السنّة على حزب الله وسوريا وإيران مجدداً، أم سيكون جزء من السنّة هنا وآخرون هناك، وإلى أي حد يمكن أن تتطور الأمور؟
المخرج الذي لن يوافق عليه أيّ من أطراف فريق 14 آذار، أو الغرب، والذي يمكن أن يحل الأزمة اليوم ليس أقل من إعادة النظر في موقف لبنان الرسمي من المحكمة الدولية، وهنا الدور الأكبر سيكون لرجلين، الأول هو رئيس مجلس النواب نبيه بري، والآخر هو وليد جنبلاط، فالأول ستكون أمامه مهمة طرح ملف المحكمة أمام مجلس النواب، فبعد أيام يمكن أن نسمع التمهيد لهذا الأمر عبر تصريحات إعلامية، ويتم بعدها عقد جلسة لمجلس النواب عنوانها دستورية المحكمة، وتوقيع لبنان عليها
وسيبتّ خلال هذه الجلسة عدم دستورية المحكمة، حيث إنها اتفاق مع جهة خارجية، أي اتفاقية دولية بحاجة الى موافقة مجلس النواب، وهو ما لم يحصل. وحين جرى التوقيع على المحكمة ودور لبنان ومساهمته فيها كان مجلس النواب معطلاً، وبالتالي فإن ما يحصل الآن وما يصدر عن المحكمة لا يجب أن يعني لبنان الرسمي لا من قريب ولا من بعيد، وهي خارج السياق الدستوري
عدم دستورية المحكمة سينعكس على بند تمويلها، فلا يحق لمجلس الوزراء تمويل اتفاقيات أو المشاركة في تمويل نتائج عن اتفاقيات دولية لم يوافق عليها المجلس النيابي، وإن كان ذلك لن يؤدي الى إلغاء المحكمة وإلى توقف أعمالها، إلا أنه يعني أنها لا تعمل لمصلحة لبنان، وستكون قراراتها غير ملزمة، ولا تعني الشارع اللبناني، بل ستكون مسيّسة حكماً، وتنسجم مع أفكار مسبقة للدول المموّلة. ويمكن بالتالي التخفيف من عبء نتائج قرارها الاتهامي، وصولاً الى إلغاء المحكمة من القاموس السياسي اللبناني
في هذا السياق، فإن جنبلاط سيصوّت في المجلس النيابي الى جانب إلغاء المحكمة واعتبار تشكيلها لا يتوافق مع الدستور اللبناني، كما سيؤمن جنبلاط رجحان كفة فريق المعارضة السابقة في مجلس الوزراء (الى جانب وزراء رئيس الجمهورية) في حال الوصول الى التصويت على تحويل ملف شهود الزور الى المجلس العدلي، وفي مجلس النواب فإن نائبين من اللقاء الديموقراطي لن يصوّتا الى جانب بري وجنبلاط هما مروان حمادة وفؤاد السعد، لكن ستكون هناك مفاجأة في بعض الأصوات التي ستعيد الاصطفاف الى جانب بري، رغم أنها تعدّ من رموز 14 آذار، علماً بأنه وبمعزل عن أي مفاجأة في التصويت بما يتعلق بشهود الزور، فإن قوى المعارضة السابقة ستعمل على حشر سليمان وجنبلاط الى أبعد الحدود، وسوف يكون على جدول أعمالها قريباً اقتراح بتنحية المدعي العام للتمييز القاضي سعيد ميرزا، ومعه آخرون من بينهم القاضيان الياس عيد وصقر صقر.
هذا الاتجاه قد يتطلب الذهاب (قبله أو خلال المسار) الى الدوحة ثانية ومجدداً، مع ما يعنيه ذلك من استخدام أساليب لإقناع رئيس الحكومة بضرورة الذهاب الى الدوحة للتفاوض مع مواطنيه والأطراف السياسية في بلاده، وربما لا يقتنع رئيس الحكومة بضرورة إقامة تسوية جديدة بعدما انتهت مفاعيل الدوحة ــ 1، وتكاد تنهار مفاعيل اتفاق الطائف بما فيها وقف الحرب الأهلية
في زيارة مساعد وزيرة الخارجية الأميركية جيفري فيلتمان الأخيرة الى لبنان، حاول القول لمن تحدث إليهم إن الولايات المتحدة ترغب في بقائهم على مواقفهم السابقة، وإن المحكمة ستؤدي الى تعزيز أوضاعهم، وإن المطلوب هو التصويت لمصلحة المحكمة ولمصلحة منع المحاكمة عن الشهود، وحين قال له أحد الذين تحدث إليهم: «من يحمينا في لبنان؟» أجاب الموفد الأميركي: «نحن الى جانبكم دائماً وسنحميكم». فرد القيادي اللبناني: «شاهدنا ما الذي فعلتموه من أجلنا في السابع من أيار». لكن الهم الأميركي الفعلي بقي منصباً على ما سيكون عليه تصويت النائب وليد جنبلاط ورئيس الجمهورية في مجلسي النواب والوزراء، بينما في سوريا من يقول إن جنبلاط «قد سمّي كاهناً، وعاد إلى موقع خوض حرب الجبل عام 1983»
في الأيام القليلة الماضية، استقبل الرئيس السوري كلاً من وليد جنبلاط ونبيه بري والرئيس عمر كرامي، بينما كانت بعض الشخصيات في المعارضة تلتقي في بيروت قياديين رفيعي المستوى من حزب الله، كان البحث في بيروت يدور حول المرحلة المقبلة، وكان في الأفق حديث عن احتمالات، وعن ترتيبات واستعدادات، لكن هذه المرة لم يتسرّب الكثير مما حصل ومما يعدّ، ولم يشارك كل حلفاء حزب الله في المشاورات والدراسات والترتيبات التي جرى إعدادها للمقبل من الأيام، بل اكتفي بعدد منهم دون غيرهم. وسيكون لدى الأمين العام لحزب الله إطلالتان إعلاميتان، الأولى يوم الحادي عشر من شهر تشرين الثاني المقبل في يوم الشهيد، والأخرى لم يحدد موعدها بعد».