المناخ الإجمالي السائد حالياً يشبه إلى حد بعيد المناخ الذي خيّم عشية صدور القرار 1559. أداة الضغط المباشرة هي ذاتها، صادرة عن مجلس الأمن الدولي واسمها المحكمة الدولية، والقوى التي تريد القيام بالمهمة تنتشر على نفس القوس من مصر والسعودية ودول خليجية إلى فرنسا والولايات المتحدة الاميركية، وكل التمايز القائم الآن في مواقف جهات بارزة في فرنسا والسعودية لا يعني شيئاً في حقيقة الأمر، ما دامت أي خطوة عملية باتجاه وقف مفاعيل المحكمة الدولية لم تصدر عن مركز القرار في باريس والرياض.
الأنباء الواردة من العاصمة الفرنسية ليست جيدة كفاية. تلك العاصمة التي يعوّل عليها الجانبان السوري والإيراني لأداء دور في كبح جماح الجنون الأميركي، كل ما يقال فيها هو أن النقاش محتدم بين تيار يقول بأن مسار المحكمة يهدد الاستقرار الداخلي في لبنان، وبين تيار يقول إن المحكمة سوف تتيح فرصة كبيرة للتخلص من حزب الله بوصفه القوة المهددة للاستقرار في لبنان. ويبدو بحسب متابعين أن اللوبي الصهيوني في العاصمة الفرنسية قد عزز حضوره في عدة مواقع مهمة من قصر الإليزيه الى وزارتي الخارجية والدفاع، وخصوصاً أنّ الأخيرة بات لها دور واضح في الفترة الأخيرة، بعدما تبين أن جنرالات كباراً كان لهم دور في التحريض على العماد ميشال عون، وهم يعتقدون أن حزب الله مسؤول عمّا تعرضت له وحدات فرنسية مقاتلة في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، وما تتعرض له قوات فرنسية ضمن اليونيفيل حالياً.
وفي مجلس الأمن، ثمة عودة الى اللعبة نفسها، وبالوسائل ذاتها: مندوب اميركي يحرّض، وموفد (تيري رود لارسن) يعرض أدلّة مزوّرة، فيما تمارس الدبلوماسيّة الفرنسية لعبة الخبيث الذي يقوم بكل الأدوار القذرة، لكنه يريد الظهور بمظهر المستقلّ.
في واشنطن كلام مباشر عن رغبة في توزيع الأدوار مع دول المنطقة. وجيفري فيلتمان تولى قسماً من هذه المهمة. لكن اللافت أنه ليس في الادارة الاميركية من يهتم لكل التحذيرات من تدهور الأوضاع في لبنان، وصولاً الى أن مصادر اميركية جدية تلفت الانتباه الى أن الامور ليست رهن مصالح وحسابات بعض الجهات النافذة في لبنان أو السعودية، وهذا جوهر ما قام به فيلتمان عندما ألمح أمام كثيرين إلى أن معركة المحكمة يجب أن تستمر وليس على أحد الخشية أو التخوف من التهديد بالفوضى أو الانهيار في لبنان.
لكن اللافت أيضاً الموقف المصري الذي تطور في الايام الأخيرة الى حدود خروج جريدة «الأهرام»، أمس، بافتتاحية لرئيس تحريرها اسامة سرايا (القريب جداً من دوائر القرار في الرئاسة وفي الاستخبارات العامة المصرية)، والذي هاجم سوريا بقوة واتهمها بالعمل على تعزيز «المصالح الايرانية في العالم العربي». وتضمّنت الافتتاحيّة إشارة هي الأولى من نوعها الى أن سوريا تسعى الى تعزيز «مصالح الشيعة في العالم العربي». فضلاً عن اتهام القيادة السورية بأنها «تبيع الاوهام، وهي تقول إنها تدعم المقاومة لكنها لا تحرر أرضها المحتلة».
اما في لبنان، فإنّ الحركة التي سوف تقوم بها قوى 14 آذار تتصل بآخر المراجعات التي قام بها فيلتمان مع الرئيس الحريري خلال اجتماعهما غير المعلن في الرياض، وفي الرسائل التي بعث بها المسؤول الاميركي الى قيادات في الفريق الحاكم، من بينها سمير جعجع وفؤاد السنيورة الذي اشرف في الايام الماضية على عقد سلسلة اجتماعات بطلب من الرئيس سعد الحريري، وعاونه في ذلك مستشار الحريري للشؤون الخارجية محمد شطح، وذلك في سياق إعداد خطة عمل للمرحلة المقبلة تشير معلومات الى أنها تقوم على الآتي:
أوّلاً: إسقاط مبدأ البحث في سلاح حزب الله على طاولة الحوار، بعدما تحول إثر زيارة الرئيس الايراني محمود احمدي نجاد الى سلاح اقليمي يفترض أن يعالج على أنه جزء من القرارات الدولية، ولا سيما القرار 1559.
ثانياً: التوجه الى مجلس الامن الدولي لإشعاره بالمسؤولية عن توفير عناصر الحماية لعمل فريق التحقيق في المحكمة الدولية، وخصوصاً في ضوء «حادثة العيادة»، وأن يصار الى إصدار مجلس الامن بياناً او حتى قراراً يضع مبدأ التعاون مع المحكمة الدولية تحت الفصل السابع بغية توفير الحصانة التي تريدها الحكومة اللبنانية للمضي في التعاون.
ثالثاً: إعادة النقاش مع حزب الله الى المربّع الأول الذي قام في عامين 2005 و 2006 عندما ابلغت قيادة حزب الله بأن التعرض للمحكمة او للتحقيق الدولي يُعَدّ مسّاً بقدسية تخص تيار المستقبل، وهي توازي قدسية سلاح المقاومة، وأنه إذا بادر فريق المعارضة الى اجراءات قانونية في المجلس النيابي تُسقط الإجماع على المحكمة، فإن فريق 14 آذار سوف يبادر الى إعلان التخلي عن البيان الوزاري الذي يمنح المقاومة شرعية رسمية.
رابعاً: النقاش حول آلية العمل في الوسط المسيحي في ضوء فشل اسقاط العماد ميشال عون أمام القوات اللبنانية التي تواجه عزلة يجب مساعدتها على تجاوزها، وأن يصار الى إعادة الاعتبار الى مرجعية بكركي من خلال تنشيط حركة اتصالات معها تتولّاها شخصيات عامة في 14 آذار، وذلك في استعادة لمشهد عام 2004.
خامساً: اللجوء الى وضع استراتيجية إعلامية مضادة في مواجهة فريق المعارضة من خلال تأليف خلية عمل برئاسة مستشار رئيس الحكومة هاني حمود وعضوية فريق سياسي وإعلامي وأمني، تتولى فتح ملفات وفبركة ملفات أخرى لجهات سياسية وإعلامية (من بينها جريدة «الأخبار» وقناة «نيو تي في») في سياق ما يرونه حملة مضادة. ويبدو أن احد النواب الموالين للرئيس سعد الحريري أشار امام عدد من الإعلاميين والاصدقاء الى نيته وفريقه توزيع معلومات تخصّ صحافيين في جريدة «الاخبار» تنال منهم شخصياً بغية ردعهم ومنعهم من مواصلة انتقاد فريق الحريري ووقف السجال النقدي مع المحكمة الدولية. ويبدو أنّ هذا النائب، وبمعاونة احد الأمنيين، بدأ الاعداد لملف معلومات (تجري فبركته في غرفة سوداء بالتعاون مع جهة امنية رسمية وحتى مع احد القضاة) بقصد التشهير الشخصي.
غير أن المؤشر البارز من خلال هذه المناقشات والخطوات هو أن عمل فريق الرئيس الحريري لا يشبه أبداً التعهدات الشخصية والعامة التي قدمها الى سوريا والى جهات اخرى لجهة رغبته في وقف كل انواع التزوير كالتي قامت في فترة التحقيقات التي ارتكبها الرئيس الأول للجنة التحقيق، الالماني ديتليف ميليس. نحو المواجهة دُر!