العمل البلدي والتنمية الاجتماعية – الدكتور و ليد عربيد

لا يمكن تناول دور البلديات في التنمية من زاوية ايديولوجية، فللبلديات دور ذات مستوى أكثر رحابة من وضعها في خانة التسييس الايديولوجي، وخصوصاً اذا كنا نتحدث عن البلديات ودورها في التنمية المحلية والاجتماعية.

وقبل ذلك، لا بد لكي ينجح العمل البلدي في التنمية، يجب فهم وظيفة البلدية، وحتى عملية الانتخاب ذاتها، وأي وظيفة تؤديها في التركيب السكاني والاجتماعي للقرية أو للبلدة والمدينة. فالبلدية لها دور تنموي بالتأكيد ولها وظيفة اجتماعية أساسية وبيئية، أي ان لها دور مدني حاسم في التطوير، ليس من خلال المشاريع وحسب، وانما في تعويد الناس على أن تطوير وتعزيز الحياة الاجتماعية والانسانية والبيئية وحتى المعيشية هي مسؤولية الجميع ويجري تأطيرها في العمل البلدي.




وليست البلدية تحل محل الدولة في هذا السياق، اذا كنا نتحدث عن دور تتنطح اليه، فللبلدية كمسؤولية محلية دور وللدولة أو للسلطات دور آخر. وحين تتحقق عملية اللامركزية الإدارية يمكن حينئذ تعزيز دور البلدية ومدها بسلطات إضافية ويمكن تحميلها مسؤولية عامة. وحتى القانون البلدي ينبغي تناوله على أساس جديد، اذا كنا نريد تطويره في القانون والوعي والوظيفة. كما ينبغي التشديد على ضرورة العمل على التنمية الاجتماعية في ظل القضايا الخطيرة والكبيرة التي تمرّ بها البلاد.

وقد تشكل اللامركزية الادارية، وفي موضوع البلديات، عاملاً أساسياً لتحقيق التنمية المتوازنة والديمقراطية والاصلاح الاداري في البلاد. وتمثل البلديات الدائرة الاجتماعية والوحدة الرئيسية للادارة المحلية، وعليها يعول دور مهم في تحقيق مزيد من التحديث والتقدم الاجتماعي والعقلنة والديمقراطية والتنظيم المدني والحفاظ على البيئة، لكن البلديات لا تقوم بوظيفتها هذه، وهي ربما لا تستطيع بسبب محدودية صلاحياتها، ولذلك يقتضي الأمر إصلاح العمل البلدي وتفعيله وتحديثه، إضافة الى تفعيل الترويج لثقافة جديدة في العمل البلدي والتنمية المحلية، فضلاً عن توطيد علاقة المشاركة.

والحقيقة أن التركز السكاني في المدن الساحلية يطرح في هذا الوقت مشكلة ديمغرافية وإجتماعية وبيئية وإقتصادية تتفاقم بموازاة استمرار ظاهرة الهجرة من الارياف والقرى وافراغها، في الوقت الذي يمكن ان تلعب البلديات دوراً اساسياً في تنمية المناطق الريفية وخلق فرص عمل تثبت السكان في بلداتهم وتحافظ على طابعها، كالسياحة البيئية والصناعات المحلية الزراعية والحرفية. لكن هل تستطيع البلديات القيام بهذا الدور اليوم؟ سؤال يطرح علامات استفهام كثيرة، والا لماذا تستمر الهجرة من الأرياف أو الأطراف الى المدن الساحلية؟ هذا يعني ان ليس للبلديات دور حاسم في تثبيت الناس أو إقامة مشاريع أو توفير بنية للمشاريع لخلق فرص العمل والتحديث.

وأشير في هذا الصدد الى ان التنمية ليست مسألة تقنية فقط، بل تتطلب خيارات سياسية واجتماعية ولها شروط محدّدة، مثل الاستثمار الأفضل للموارد الطبيعية والبشرية والاجتماعية وكيفية استخدام المؤسسات استخداماً أفضل، إضافة إلى توافر الجدوى الاقتصادية الاجتماعية لهذا الاستثمار. وأعتقد أن النطاق الصالح للتنمية، يجب ألا يكون موسّعاً إلى درجة فضفاضة، أو ضيقاً إلى حد فقدانه القدرة على الفعل. وهذا يستدعي ربما إعادة النظر بالتقسيم البلدي حتى يكون النطاق الأهلي البشري قادراً على القيام بما يحتاج إليه من التنمية.

هناك تغييرات عميقة حصلت في المفاهيم والعادات والتقاليد. فمن جهة خرج المواطنون من مكان مولدهم إلى رحاب أوسع، ومن جهة ثانية يشجع نموّ سوق العمل والتواصل على الدفع نحو توسّع المجتمعات المحلية، على أن يراعى في التقسيمات الجديدة التمدّد والسياق التواصلي بين القرى والمدن كي لا يغتصب القانون الإداري الواقع الديموغرافي ويقطعه اجتماعياً. أي أن يكون القانون والتقسيم الاداري إنسانياً يساهم في وصل السكان ووحداتهم السكنية في ما بينها.


ولا بد من أهمية الشراكة الفعلية بين كل الاطراف من اجل التنمية المحلية، وواجب العمل علىوضع خطة تنمية محلية بشكل تشاركي، فالتعاون بين الاطراف المحلية من اجل الحصول على الحقوق هو من المستويات المركزية، وحق وواجب تشكل هيئات مشتركة للتنمية المحلية بين البلدية والاطراف الاخرى. ولا شك أن هناك اسباب تعوق الــمــقــاربــة التنموية، مــن التعاطي الحكومي مع المسألة الاجتماعية، الى المعوقات التي قد تكون متأتية من الإدارة المشرفة على العمل البلدي، الــى المعوقات المتأتية من مستوى الوعي والممارسة في المجتمع المحلي.وتبرز معوقات أخرى في احد اوجهها الصارخة في معايير تشكل اللوائحوالانتخاب حيث هناك غلبة للمعايير العائلية والتزعمية في عملية تشكيل المجالس البلدية على معايير الكفاﺀة والسمعة الحسنة. ناهيك عن غياب البرامج الانتخابية الشاملة. وعلى الرغم من أن التنافس الانتخابي يكون عادة بين لوائح، الا ان شروط تفعيل دور البلديات في التنمية المحلية يجب أن يمر عبر احتضان المجالس البلدية من قبل المديرية العامة للشؤون البلدية بما يساهم في دفعها الى انتهاج طــرق ومعايير تنموية فــي ادارة الشأن المحلي، وتفعيل دور الموجه البلدي، والزام اعضاﺀ المجالس البلدية بالخضوع للتدريب على منهجيات التنمية المحلية، وتشجيع البلديات على بلورة خطط تنمية محلية عبر تمويل جزﺀ من المشاريع، والعمل على التشبيك بين هــذه البلديات والجهات المانحة، والــزام البلديات بتشكيل فريق عمل محلي يضم اعضاﺀ من المجالس البلدية وممثلين عن المجتمع المحلي والمؤسسات الاجتماعية الفاعلة مهمته بلورة خطط التنمية المحلية.

أقول هذا الكلام لأن البلديات تواجه معضلات وصعوبات في التنمية، وربما تكون عاجزة عن إدارة نفسها بالكامل، وهي بحاجة دائماً إلى الزعامات المحلية لإدارتها، وخصوصاً مع هيمنة وزارة الداخلية وأجهزتها على البلديات، حيث تتداخل القوانين بما يعيق الإنماء الحقيقي.

وأعود الى النقطة الأولى، فالتنمية المحلية هي القدرة على الإستفادة من مصادر البيئة البشرية والمادية المتوافرة وزيادة تلك المصادر كماً ونوعاً وتطويعها بما يعود نفعه على جميع أفرادالمجتمع، مع ضمان إستدامة هذه المصادر. ويبقى العنصر البشري وتطويره مادياً وثقافياً وروحياً الشرط الأساسي لكل تنمية حقيقية.

على ان التنمية لا تتحقق بمفهومها العلمي والشامل وببعدها المحلي والوطني إلا من خلالمشاركة جميع العناصر الفاعلة في المجتمع، لما تنطوي عليه هذه المشاركة من أهمية فيتعديل السلوك الإجتماعي للمواطنين وفي بناء معايير وقيم إيجابية تقوم على التضامنالإجتماعي والمشاركة الشعبية في التنمية النابعة من الإحتياجات الحقيقية للأهالي، وذلك من خلال بناء علاقة تعاون وثقة بينهم وبين السلطة المحلية والوطنية.

ولكي يتم تفعيل دور البلدية في التنمية، لا بد من وضع خطة متكاملة تتضمن التوعية والتثقيف بأهمية المشاركة في الحياة العامة من خلال تعميق الحوار بين جميع شرائح المجتمع وإتجاهاته، وتعميق القيم والمفاهيم، وتشجيع الحوار والمشاركة بين الحكم المحلي والمجتمع المدني لتطوير القدرات المحلية في التنمية.

ولذلك يجب الاستفادة من جميع مؤسسات المجتمع المدني والجمعيات المحلية لتحقيق مفهومالمشاركة في العمل البلدي وعملية التنمية المحلية. فالبلدية هي ركن أساسي في تنمية المجتمع المحلي، وفي تطوير وضعه الإقتصادي والسياسي والتربوي والصحي والبيئي، وفي التنشئة الوطنية إنطلاقاً من تماسكها المباشر مع الكتلة البشرية التي تقع ضمن نطاق مسؤولياتها وتواصلها المتين مع السلطة المركزية . التي علبها أيضاً واجبات محددة لتطوير دور السلطة المحلية.

ولا شك إن آفاق العمل البلدي في التنمية هي أوسع من أي تحديد قانوني. لذا يستوجب العمل البلدي إتباع منهجيات سليمة لتحقيق التنمية المحلية والتغيير المنشود نحو الأفضل، عن طريقتوطيد الروابط الإجتماعية وإشراك المواطنين على أوسع نطاق في صناعة القرار والتنفيذ، وتدريبهم على المساهمة في المشاريع العامة، وعلى الحفاظ على الملكيات العامة ومصالح المجتمع والوطن.

وعلى منظمات المجتمع المدني أن تعمل على توجيه مشاركة الناس في الأنشطة الاقتصاديةوالاجتماعية وتنظمهم في جماعات أكثر قوة للتأثير على السياسات العامة وللتمكن من الوصول الى الموارد العامة. وفي المقابل، يشجع التواصل الأقرب بين البلدية والمواطنين والمنظمات المحلية على تبادل المعلومات التي يمكن استخدامها لصياغة برامج تنمية مبنية وفق أولوية الحاجات المحلية.

وأخيراً، ان المشاركة بين البلدية ومنظمات المجتمع المدني والأهالي تُمكّن المجتمع منالاستخدام الأمثل لطاقات وقدرات أفراده وجماعاته المنظمة، وتعطي دوراً أكبر للمجتمعالمدني، وتمكّن المواطنين من التأثير على السياسات الاجتماعية والاقتصادية التي تساهم تطورا" مهما" على صعيد التنمية المحلية، وتسمح بالتالي في تطوير سياسات التنمية الاجتماعية.

 

الدكتور و ليد عربيد

استاذ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية