شارع الحمرا الجديد بلا بوّابات ولا حرّاس عند مداخله – حسن داوود – المستقبل

أعتقد أنّه سبق لي أن رأيت ذلك المشهد الذي صوّرته كاميرا عبّاس رمضان. ربما كان ذلك من الطابق العالي للفندق الضخم حيث، من هناك، ظهر الشارع الضيّق الطويل الذي هو شارع الحمرا. من الجهتين تحاصره البنايات وتكاد تطبق عليه آكلة من مساحته. أما السيّارات المضاءة، لكون الصورة قد التقطت في الليل، فمن السهل تصوّر البطء الذي يجعلها أقرب إلى أن تكون متوقّفة منتظرة. أما في الأعلى، حيث سطوح البنايات المتفاوتة علوّا وانخفاضا، فلا شيء يفرّق ذلك المشهد عن أيّ من مشاهد بيروت. "بيروت قبيحة من الأعلى" نقول لبعضنا بعضا، متناصحين بأن لا نقيم في الطوابق العالية


من صورة عباس رمضان هذه، المعنونة "الحمرا من مسافة"، يبدو هذا الشارع فاقدا لكلّ الأوصاف التي أعطيت له. كأن لا فرق بينه وبين أيّ من شوارع المدينة المتروكة على حالها منذ سنوات ما قبل الحرب. وفي صورة أخرى لرمزي حشيشو "خلف المناظر" تبدو أقفية البنايات المتقابلة أكثر قبحا مما تظهره الصورة الأولى. فهنا، في ذلك الحيّز الضيّق بين البنايتين اللتين أدارت إحداهما ظهرها للأخرى، لم تسقط ورقة أو قطعة قماش مهملة، أو كيس نفايات فارغ، إلا وبقي في مكانه الذي سقط فيه، سنة بعد سنة. كأن الناس المقيمين في الشقق التي في الأعلى هجروا ذلك الجزء الخلفيّ من بيوتهم وامتنعوا حتى عن الخروج إلى شرفاته





وهناك صور أخرى كثيرة في الكتاب ترينا كيف أنّ أشياء كثيرة كان ينبغي إخفاؤها، أو إزاحتها من الشارع، قد أبقيت هناك: صحاحير الخضار مثلا التي وضعت عند حافّة الرصيف، الكراسي الثلاث المرصوفة جنبا إلى جنب والتي كان الأنسب لاثنتين منها على الأقل أن ترمى في مكبّ النفايات. وهناك أيضا مزق الصور الباقية على الجدران، والتي تغطّيها مزق أخرى وضعت فوقها. وإلى تلك "الفوضى" تعمّدت صور الكتاب أن تضيف غير المألوف إلى المشهد العادي: الرجل، الجالس على كرسي قريبا من وسط الشارع، متّكئا على سيارة ومسبّحا بسبحته وناظرا إلى عين الكاميرا. "جلسة" هذا الرجل، الستيني المرتّب الهندام، والجالس كأنّما في إحدى ساحات القرى، من يمكنه أن يقول إنّه يخربط مشهد الحمرا؟ مثله أيضا ذلك الرجل الآخر الذي يجلس على كرسي في مكان بارز من الشارع، حاملاً بيديه ستفاً من عملات هي، على الأغلب، عملات بلدان مختلفة سيجري صرفها وتبديلها مرّات. ثم كيف لم يحتجّ أحد على نشر الغسيل بهذه الكثرة أمام الشرفات التي تعلو الشارع، أو تعلو رؤوس السائرين على رصيفه. في روايته "رجل بلا قيم" يصف هربرت موزيل كيف يمكن لذلك الشارع الأوروبي أن يستعيد نظامه بعد لحظات من وقوع حادثة الإصطدام القاتلة فيه، هكذا من دون إشراف من أحد، كأنّ الشارع قادر على تنظيم نفسه بنفسه

في شوارع أخرى لم تنج من تسرّب عناصر الفوضى إليها كنّا نرى تلك النظرة الممعنة في الفضول، إلى حدّ الإستهجان، التي يلقيها المارّة على ما يستغربونه. هنا في الحمرا يمكن للرجل الكهل المتسوّل أن يقتحم خلوة رجل وامرأة في المقهى إلى حدّ أنّه، بعد لحظة، قد يسقط ملقيا جسمه غلى الطاولة الصغيرة التي بينهما. ثم هناك الرجل العجوز الآخر، المتعب من ثقل السنوات كما من ثقل الحقيبة التي حملها على ظهره غير مكترث بأن طرازّها يناسب أجيالا قدمت من بعده بعشرات السنين. ثمّ تلك الصورة التي تُظهر راهبات ثلاث وقفن أمام بائع نظارات شمسيّة مقلّدة، هناك على الرصيف، ورحن يجرّبن النظارات على وجوههنّ قبل أن يشترينها


وقد يخطر لنا فيما نحن نقلّب صور الكتاب، أن ذلك الرجل الذي ذكر التعليق على صورته أنّه رجل نموذجي للشارع ربّما كان أكثر الناس اختلافا عنه. فهو ( الصورة لولاء طفيلي) مكتمل الأناقة (يرتدي بدلة مغلقة الأزرار وربطة عنق وبوشيت من لون ربطة العنق ويحمل جريدة بيد ومسبحة باليد الأخرى وقد مشطّ شعره إلخ…) يبدو الأقل انسجاما مع ما يحتويه الشارع وما يمتلىء به. بل إنّه، في مخيّلة متصفّح الصور، هو الذي سيدير النظرات الفضوليّة إليه


في أحيان نُرجع تلك السمعة المميّزة لشارع الحمرا إلى كونه مكانا لنماذج من الناس يصعب الإلتقاء بهم في شوارع بيروت الأخرى. من بين هؤلاء مثلا الرجال الذين صوّرهم محمد سويد في فيلمه عن الحمرا، أو عن سينماتها، بحسب ما زلت أذكر.وهم رجال الزمن الذي انقضى. في أحيان أخرى نقول إنّ شارع الحمرا لا يصنع سمعته أولئك الذين يبيتون فيه، بل أولئك الذين يقصدونه قادمين من أنحاء بيروت. وقد يخطر لنا أن نقول إنّهم يصيرون مختلفين هنا عما كانوه هناك. لكننا نتساءل، مرّة أخرى، إن كان هذا الشارع ما يزال قابلا لأن يغيّر زوّاره، أو أن يشعرهم بأنّهم تغيّروا فيه على نحو ما يشعر أولئك الذين يظنّون أن مكانهم الطبيعي، الأصلي، لا يلائمهم. هل ما زال الشارع، بعد سنوات إهماله الطويلة، قابلا لأن يستقبل رغبات الشبان الجدد مثلما كان لنا في أيّامنا؟


إنّه يعود إلى ما كان عليه وهو ما زال يعمل على استعادة ما كان قد خسره. ألكتاب الذي احتوى صوره ذكر في مقدّمته أنّ المقاهي التي كانت فيه عادت إليه، ليس هي نفسها لكن ما قد يماثلها على نحو ما. كما أنّ الروّاد القدامى عادوا، ليس هم أنفسهم ربّما بل من يمكن لهم أن يكونوا مثقفين أو محبين للثقافة

أما أولئك الأوائل، روّاد الجلوس في المقاهي ( بمعنى الريادة والسبق) فربّما لا يشعرون، إذ يجلسون على الكراسي، أنّهم في المكان الذي يناسبهم. يجب أن يبدأوا بالإعتياد مثلا على المطاعم والمقاهي التي، إذ تأتي متلاحقة لتعيد الشارع إلى ما كان عليه، تكون تجدّده لكن لأناس آخرين. هكذا يجب على أولئك القدامى أن يتمرّنوا على الجلوس في "لو روج" تمرينا ليصير، مع الوقت، مقهاهم أو مطعمهم


وربّما يستنكف كثيرون منهم عن زيارة الشارع فيما هم يردّدون إنّ أمكنتهم السابقة لم تعد موجودة. سينما الحمرا مقفلة وسينما ألدورادو تحوّلت متجرا لبيع الثياب بأسعار مخفّضة وفي مبنى ستراند لم يعد أحد يذكر صالة السينما التي كانت هناك. ثمّ أنّ البشر الذين يملأون الشارع الآن ليسوا مثل سابقيهم. في سينما الكوليزيه، آنذاك، كان الحضور مختلفا كأنّه اختير، فردا فردا، من مجموع الشعب اللبناني. الآن باتوا جميعا هناك، بلا اختيار أو اصطفاء، وكلّ يجد مكانا له في الشارع الذي لا بوابات له ولا حرّاس يقفون على البوّابات


"لكم حمراؤكم ولي حمرائي- قصص مرئيّة معاصرة" كتاب مصوّر يحوي أعمالاً فوتوغرافية لمصوّرين محترفين وهواة اشتركوا في مسابقة نظمتها
سبريد ميندز