ملل ونحل – المطران جورج خضر – النهار

كل بلد ملل ونحل. والملة قوم على دين، فليس من معتقد يقوم بلا ناس وليس من انسان لا ينتمي الى معتقد والملحدون أنفسهم واحدهم الى الآخر. الدنيا تقوم على مجموعات الفارق بينها وبين الاوطان ان الوطن مصنوع، تاريخي، ركّبته الظروف، واما الدين فمن المسلّم به عند أتباعه انه جاء من الله والانتماء اليه انتماء الى الله أي الى هذا الذي ليس مثله يحرك القلوب.
ولكون الجماعة الدينية ليست جزءاً من شيء يكون لغواً كل هذا الحديث الذي يفيد ان الولاء للوطن يجب ان يصير بديلا من الولاء للطائفة وكأنك تقول اترك المحل الذي فيه إله الى المحل الذي ليس فيه إله. القضية لا توضع اذًا على مستوى القلب. تبقى على مستوى الترتيب السياسي.
تبقى كذلك لأنك اتخذت قرارا سياسيا يقول ان الطائفة مجموعة سياسية يمكن جعلها على مستوى الوطن الذي هو جماعة سياسية أكبر أو أوسع. أنت لا يمكن ان تقارن الا بين مجموعات من طبيعة واحدة. لذلك اذا كان عندك مشكلة حياتية مرتبطة بتعدد الطائفة فلا حل لها الا بإزالة التعدد السياسي أي بذوبان الطوائف احداها بالاخرى فلا تقرأ الوجود الطائفي إطلاقا وترى الناس كلهم مجتمعا مدنيا صرفا.
أول سؤال يطرح نفسه هو هل ترى الطائفة نفسها وجوداً مدنياً بحتاً. اذا قرأت "كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر" لا يرى المسلمون أنفسهم وجودياً خير أمة لكنهم هم في حركية هذه الأفضلية عند امرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر. هم يصيرون مؤمنين بتحركهم. واذا قال العهد الجديد عن أتباع يسوع انهم أمة مقدسة فيفهمون انهم يحققون ذلك بمسيرتهم الى البر. طبعاً الوطن يتعامل والناس كما هم أي اذا أمروا بالمعروف أو لم يأمروا واذا سلكوا دروب القداسة أو لم يسلكوا. لا يمكن الدولة ان تعطي اعتبارا للمستوى الروحي في الجماعات كما انها لا تستطيع تجاهل إيمان الناس وتصدمه. لذلك كان إنشاء مجلس شيوخ يعنى بامتياز برؤية الوجه الروحي للتشريع اختراعا لبنانيا جميلا أعمق من تجاهل فرنسا وبعض الدول العلمانية للأديان كليا. ان الغاء الطائفية السياسية أمر يفرض علينا الإخلاص ان نواجهه بصدق وبلا خوف. ما مضمون الإلغاء؟ يبدو لي ان مهمة الأمة وليس فقط مجلس الشيوخ ان توضح بعض الأمور الأساسية: هل يتضمن إلغاء الطائفية ان يأتي الرؤساء الثلاثة من أي مذهب كان وان تلغى أية صفة دينية عن أي موظف وفي الجيش. ان الغاء الطائفية السياسية تدبير تشريعي يرافقه غيابه عن النفس. لولا هذا الواقع لكان أكثر تخريبا من الطائفية السياسية.


في التأزم الديني أو المذهبي أو الطائفي القائم ممكن استغلال الغاء الطائفية السياسية وتضخيمها بحيث يأتي الرؤساء الثلاثة وكبار الموظفين والنواب من الطوائف السائدة عدديا بسبب من حملات متشنجة مسعورة لإلغاء الصغار. قبل ان يوضع مضمون وتفصيلات لإلغاء الطائفية السياسية نكون قد ارتمينا في المجهول الوجودي من أجل الوجود النظري الذي يبدو انه التجاوز الأمثل لخلافاتنا.
أما القول بأن تغيير النفوس قبل النصوص فهو في حقيقته المثالية السياسية دخول في الملكوت أي ارجاء الموضوع الى الآخرة. هل تأتي "الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية" وسيلة للتوفيق بين الآخرة والاولى. هذا يذكرني بشعار كبير تصدّر القانون الروماني: "ما القوانين بلا اخلاق وما الاخلاق بلا القوانين؟". كل الأعوام التي تلت الحرب شدد الفكر اللبناني على دولة المؤسسات والقانون. كلنا يفهم ذلك امام التفلت العميم من القانون وهذا قول عظيم في نظامنا الطائفي ويبقى عظيما بعده.





ما يحزنني كثيرا ان الطوائف أمم صغيرة أو قبائل، وان كل جماعة تُعرَف بعددها لا بما شاء رب كتبها ان تكون. بكلام آخر لا نقارن قيم الإسلام ولا قيم المسيحية لنعمل سياسة. شعوب متناصرة أو متقابلة للتفوق في السلطة والله لا علاقة له بشيء من هذا. "خير أمة أخرجت للناس" في قول و"أمة مقدسة" في قول. لا يبدو ان هذا يوظفه احد أو يقدر ان يوظفه ليحب، ليبني وطنا. مشكلتنا مشكلة لغوية. لفظة أمة اذا استعملت بلا نعت لها مدلول في الدستور ومدلول آخر في كل حزب يستعملها.
هل نعت الأمة الذي نستعمله هوية؟ كيف نلغي الطائفية السياسية ولسنا متفقين على معنى واحد للفظة في القاموس؟ يجوز ان نكون بلا هوية. أنت لست في السياسة مضطرا الى هوية تأخذ بمجامع قلبك. أنت في هذه الدنيا تنتسب الى بلد. هذا خيار للعيش وتعمر مجتمعا لا شعر فيه ولا رومنسية وطنية ولكنك تعمر لبنان حضارياً بأعلى مقاييس العمران.
أظن ان المجتمع اللبناني لا يمكن ان يقوم إلاّ على هيكلية خاصة به نابعة من مكوناته وذاكرة تاريخية له ثقيلة ومهما اردت حاضرك حرا من وطأة التاريخ تبقى مشدودا الى الماضي ولو لم تكن اسيرا له. العبء الملقى على عاتقك ارجو اننا نسير على الانعتاق من حمله. أنا لست أشك في ان كل فريق ديني يحمل ذكرى مقهورية ولو اختلفت عن الأخرى في الرؤية اليها وتحليلها التاريخي والنظري. هنا يمكن ان تعلم الدولة شعبها. فإن كان الطهر فيها يتعلم الشعب هذا الطهر فيما نتعاطى الشأن العام ونشرع في تقدير الفريق الآخر بحيث نرى كفايته وصدقه والممارسة خير درس.


فلتتشكل الهيئة الوطنية المكلفة درس موضوع الغاء الطائفية اذا كان معظمنا يدعي احترام الطائف. وقرارها غير مقيد بفترة زمنية. ولكن لترافقها المقامات الارشادية والمفكرون بكل ما من شأنه ان يطهر النفوس من الخوف والشك حتى تتزاوج النفوس والنصوص وقت يرتضينا الله.
ولكن على الغائكم الطائفية السياسية اذا بقي هذا الشعب فقيرا لا تكونون عالجتم شيئا. مع الطائفية صعوبات كأداء لا ريب في ذلك. لكن الجوع آفة وبعض منا جائع. مع الطائفية او الغائها ينبغي ان يأكل شعبنا اكله وان يتعلم ويتداوى. هذه لن نختلف فيها. متى نفيق لنرى الآكلة ونكافحها ونحيا.