الإبــــن الوحيــــد – المطران جورج خضر – النهار

الإبن الوحيد اذا قيلت عن المسيح هي إياها الابن الحبيب. لم يسمّ في العهد الجديد ولد الله. مرة واحدة في رسالة يوحنا الأولى الجامعة قيل إنه مولود من الله. سُمّي الناصريّ مولود مريم. البشر نعتهم الكتاب بأنهم أولاد الله. القول اذًا إنه ولد من حيث هي تسمية غير واردة عندنا إلا في بعض المواضع الطقوسية النادرة جداً. الابنيّة او البنوّة هي التسمية. غير أني لست معالجا مصدر الابنيّة مباشرة كما ورد في دستور الإيمان النيقاويّ في عبارة "إله حقّ من إله حقّ". قصدي أن أصل الى هذا من بشرية المسيح


أتخذ معمودية الأردن منطلقاً لكلامي على الابنيّة. قبل أن عمّده يوحنا المعمدان أو السابق قال عنه هذا: "هوذا حمَلُ الله الذي يرفع خطيئة العالم" (يوحنا4 ٢٩:) أي انه في سياق الحديث عن موته وبعد اصطباغه شهد "أن هذا ابن الله". هذا ليس قولا واضحًا عن أزلية العلاقة بين الآب والابن. هنا عندنا ابنيّة مكشوفة في بشرية المسيح المصطبغة في الماء. يوحنا الإنجيليّ ونهجه أن ينزل من ألوهيّة المسيح الى بشريّته يصعد هنا من البشرية الى الألوهة





متى الذي يركّز على البشرية يذكر المعمودية. بعدها "انفتحت السموات ورأى السيد روح الله نازلاً مثل حمامة وآتياً عليه، وصوت من السماء قائلاً هذا هو ابني الحبيب الذي به سُررتُ" (١٦:٣ و١٧). هكذا عند مرقس بصورة شبه حرفية. كذلك لوقا


ماذا يعني هذا الكلام الواحد في سرد حادثة المعمودية في الأناجيل التي نسمّيها إزائية ( متى، مرقس، لوقا) بسبب من تشابهها الكبير في عيد الظهور الإلهي (٦ كانون الثاني) الذي يسمّيه العامّة الغطاس؟ تقول العبادات عندنا انه إعلان عن سر الثالوث المقدّس. ولكن لماذا يُنزل الله هذا الكشف في مناسبة صبغة المسيح في الأردن وهذه الصبغة نعرفها في لاهوت العهد الجديد ولا سيما عند بولس انها رمز لموت المسيح وقيامته (النزول في الماء هو النزول في الأرض، والارتفاع عنه ارتفاع عن الأرض).
أظن أن مفتاح فهمنا لهذه النصوص المتشابهة هو ما ورد في إنجيل لوقا عن التجلّي.

صعد يسوع الى جبل ليصلّي. لعلّ الجبل ثابور ولعلّه حرمون اي جبل الشيخ "وفيما هو يصلّي صارت هيئة وجهه متغيّرة ولباسه مبيضاً لامعاً، واذا رجلان يتكلّمان معه وهما موسى وايليا اللذان ظهرا بمجد وتكلّما عن خروجه الذي كان عتيداً أن يكمّله في أورشليم" (٢١:٩-٣٨). هو في مجدٍ خرج منه، والنبيان في مجد نزل عليهما من فوق، وكان الحديث عن آلامه. هذا ما عناه القول: خروجه في أورشليم. ثم "كانت سحابة فظللتهم (أي التلاميذ الثلاثة الذين رافقوه الى الجبل). فخافوا عندما دخلوا في السحابة. وصار صوت من السحابة قائلاً: هذا هو ابني الحبيب. له اسمعوا" (٢٤:٩ و٢٥).


هنا على الجبل ليس عندنا عبارة "وبه سُررتُ"، ولكن عندنا حديثه مع موسى وإيليا، وهنا أتجاسر أن أستقرئ أن ما قاله الآب على نهر الأردن معناه أن سرور الآب بالابن يدلّ في الدرجة الأولى على سروره بالابن المتألّم اذ هكذا تمّت مشيئة الآب. وأثناء الحوار مع النبيين انكشف المجد عليه ومنه على موسى وإيليا. الله يظهر على ابنه المجروح على الصليب وقد قال يوحنا الإنجيلي غير مرة ان الصليب مكان المجد


وإذا لم يكن من مجد في السماء وعلى الأرض إلا مجد الله من جملة هذه الأقوال نتبيّن أن موضع المجد الإلهي بامتياز كان جسد المسيح في جراحه. وعندما يقول يوحنا في مطلع كتابه: "والكلمة صار جسداً وحلّ بيننا ورأينا مجده مجداً كما الوحيد من الآب". يكون قد ربط بين مجده ووصفه وحيدا من الآب. ووحيد وحبيب واحد في العهد الجديد. ويكون يوحنا مردّداً، على طريقته، ما قيل في صبغة المعلّم في الأردن وتجلّيه على الجبل. ويكون نزل من كلامه عن الكلمة في بدء روايته الى بشرية المسيح ليرى مرتسماً عليها المجد الإلهي


بعد نزول الكلمات تصاعدها. هذا ما نلمسه في أجلى بيان في بشارة متى اذ يقول: "ليس أحد يعرف الابن الا الآب ولا أحد يعرف الآب الا الابن" (٢٤:١٠). هذه الآية لا يمكن فهمها ما لم ندرك أن جذر عَرَفَ، يعرف في كل الكتاب المقدس ولا سيما في العهد العتيق لا يعني إلا تلك التي تربط الرجل بالمرأة. التي هي وحدة بينهما حتى صيرورتهما كيانا واحدا (وفي التكوين ثم عند بولس جسداً واحداً). اي ان الآب والابن معاً، وبسبب من التبادل بينهما، يحب الواحد الآخر حباً يقف عندهما ويجعلهما كياناً واحداً. المحبة عندنا هي وحدة الألوهة وهي تشكل الرابط بين الوجوه الثلاثة (وهم ليسوا ثلاثة رقمية) ونسمّيهم الآب والابن والروح القدس


من كل هذه الأقوال نستقرئ أن فكر العهد الجديد يجعل كل مجد الله على وجه يسوع المسيح. الانسان البارّ والطاهر الذي فقد كل انفعال بشريّ وتنزّه عن كل شهوة نرى أن أنواراً إلهية ارتسمت على وجهه. هنا نرى أن بشرياً واحداً مولوداً من امرأة كما يقول بولس اسمه يسوع الناصريّ مصبوب عليه كل مجد الله وليس عليه أي ارتسام من مجد هذا العالم


لقد أراد الله لفهم سر علاقته بهذا الإنسان الفريد أن ينشئ جسده من مريم بروحه، وكشف أنه كلمته ومن معانيها أن ما يقوله هذا الإنسان يقوله الله نفسه بحيث أمكنك أن تهجّئ الفكر الإلهي اذا استطعت أن تقرأ وجه يسوع المسيح، واذا أحببته تكون قد أحببت الله، واذا استطعت أن تذهب معه الى الصليب حاسباً أنك ترى مجده في الحقيقة، قد تصعد الى مجد الله. من بطن مريم الذي اختاره الله له تتابعه خطوة خطوة في عجائبه وأقواله، فترى لمسات أبيه عليه لتصل الى الصليب حيث وضع الله عليه كل هندسته وكشفه لك مخلّصاً


هندسة محجوبة بالدم ثم ينكشف الحجاب بالقيامة يسطع منه النور الذي بدا أولاً في نهر الأردن وثانية على جبل التجلّي وأخيراً على الجلجلة التي سكب الله عليها كل معرفته للكون وفيها ربط الله نفسه بالإنسانية جمعاء، فهي قد نالت الخلاص بهذا الإنسان الممزّق علمت أَم لم تعلم. وأنت اذا أردت المجد، كل المجد الممكن لإنسان أن يتلقّاه تعرف المسيح طريقاً وحقّاً وحياة وتقف عند هذا، حتى اذا رفعه الله الى السماء يرفعك معه، واذا أجلسه عن يمينه يُجلسك فيه عن يمينه لتصبح بشريتك بعد أن نالت المجد عديلة بقوتها وبهائها للألوهة القائمة من الأزل الى الأبد. والأبدية التي دُعيت أنت اليها تجدّدت به أزليّتها لمّا حلّ الابن في أحشاء البتول بمعنى أنك أنت المخلوق بعد الأزل تنتقل بالحب الى ما قبل الأزل كأنك غير مخلوق


أنت الذي أبدأك الله تصير كأنك غير مبدوء به لأن المسيح في سرّ محبته يكون قد خطفك الى عدم البداءة