التخوين، مفردة يلجأ إليها خصوم المقاومة عندما يصفون مواقف منتقديهم. يرون أن أيّ نقاش معهم بمثابة ترهيب لهم وأن قادة المقاومة ومؤيّديها إنما يلجأون إلى التخوين وسيلة لمنعهم من الإدلاء بما يصفونه بأنه رأيهم في خيار المقاومة وسلاحها. وهم يرون أن كل لفت انتباه لديهم أو تحذيرهم من الاستمرار في موقف يتطابق مع موقف إسرائيل، بمثابة محاولة لإسكاتهم. ولإلغاء حرية القول والمعتقد وفرض نظام الرأي الواحد
المشكلة أن هؤلاء لا يكتفون بهذا القدر من رد الفعل. بل هم ينتقلون مباشرة إلى إطلاق تحليلات وتقديم تقديرات حول آفاق المرحلة المقبلة، ليخلصوا كما جرت عاداتهم السيئة إلى الاستنتاج أن المقاومة في مأزق، وأنها تعاني أزمة مع حلفائها، وبالتالي فإنها تسعى إلى خلق مشكلات لتحييد الأنظار عن مشكلاتها. وهذه هي آخر صرعات التحليل عند جماعة أميركا والسعودية ومصر من اللبنانيين المنضوين في أطر تعيش على مال هذه الجهات: هل تجرؤ «القوات اللبنانية» ومعها ما يسمّى الأمانة العامة لـ14 آذار وحزب الكتائب وكل الشخصيات «النمرودية» المنتشرة على شاشات وعلى مواقع إلكترونية أن تقول للرأي العام ما هو مصدر تمويلها، ومن أين تعيش وتنفق الملايين، أم يعدّ هذا السؤال تدخلاً في شؤون شخصية؟
وآخر تحليلات هؤلاء، أن سوريا تسعى إلى الخروج من التحالف مع إيران، وأن الأخيرة ستكون عرضة لضربة عسكرية من إسرائيل أو الولايات المتحدة والغرب، وأن العقوبات التي ستفرض عليها ستنعكس سلباً على جميع حلفائها، وسيشعرون بالخناق يضيق عليهم تدريجاً، ما أوجب استراتيجية سورية ستقود إلى صدام بينها وبين حزب الله في لبنان
حسناً، وفقط من أجل ذاكرة الناس عموماً وهؤلاء على وجه الخصوص، هل يمكن استعادة تحليلاتهم الخاصة بالمقاومة خلال السنوات الأخيرة، وأين كانت الأمور وأين أصبحت؟
بعد 11 أيلول، شرب هؤلاء نخب «التحرير العالمي» الذي ستقوده الولايات المتحدة الأميركية ومعها الغرب للمنطقة العربية، وأن سلاح المقاومة في لبنان وفلسطين سيتعرض للصدأ خلال وقت قصير. ومع غزو أفغانستان ومن ثم العراق، بادر هؤلاء إلى رسم سيناريوات النهاية لتيار المقاومة وناسه قبل سلاحه، على اعتبار أن مذكرة الشروط الشهيرة التي حملها كولن باول إلى بشار الأسد غير قابلة للنقاش والرفض. وعند صدور القرار 1559، رأى هؤلاء أن ساعة المقاومة قد دنت. وإثر خروج الجيش السوري من لبنان، شُغل هذا الفريق بوضع اقتراحات لاستيعاب المقاومة وجمهورها، وبعدما قرروا لائحة الاتهام في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، كانوا يميلون إلى الاعتقاد بأن المقاومة ستختار رأسها بدل الانتحار. ثم ما لبثوا بعد انتخابات عام 2005 أن رأوا أن خيار الاحتواء هو آخر العروض، وإلا فإن علاج الكيّ جاهز، ولم تمرّ سنة حتى انتظروا نتائج الكيّ من خلال الحرب الإسرائيلية، التي ما إن بدأت حتى انطلق هؤلاء من جديد يضعون التصوّرات والسيناريوات للمستقبل القريب، بعدما أضافوا إلى المقاومة خصومهم المحليين من قوى ورؤساء بلديات ومخاتير وأصحاب حانات. ثم انتهت الحرب ليتحدثوا عن انتفاضة شعبية بوجه «الجالية الأجنبية» التي تريد تدمير البلاد. وانطلقوا في لعبة سمجة انتهت إلى قرارات 5 أيار الشهيرة، معتبرين أن استدراج المقاومة إلى الداخل، سيقضي عليها، وكثيرون كانوا يقفون على الشرفات الغربية ينتظرون الأساطيل الغربية والجيوش العربية القادمة لحسم المعركة. وظلّوا على هذا المنوال حتى أنفقوا مئات الملايين من الدولارات واستخدموا كل شيء في معركة الانتخابات، اعتقاداً بأن عدم خسارتهم سيترك البلاد بأيديهم، وينتهي الأمر على هذا المنوال
بإيجاز، لم يحصل شيء من كل هذا الشريط السينمائي الرديء. ومن دون الحاجة إلى عرض ما حصل في المقابل. من المفيد القول، إن الذين يتصدّون الآن للمقاومة وسلاحها، إنما يفعلون ذلك بطريقة لا يمكن توصيفها أو مقاربتها أو قراءتها إلا باعتبارها نسخة مطابقة لما يقوله العدو. وليس هناك أي فاصلة تميّز خطاب هؤلاء عن بيانات قادة العدو. ومشكلة المطابقة تخصّهم وحدهم، ولا داعي لأن يشغل أحد باله في سرّها وسببها، والأمر الآخر، هو أن هؤلاء يتصرّفون بواقعية إزاء قدراتهم وأحلامهم. وبالتالي فإن رهان هؤلاء على الآتي:
ـــ حملة أميركية ـــــ غربية على إيران تنتهي بعقوبات اقتصادية قاسية تمهّد لحصار يشبه ما سبق الحرب على العراق.
ـــ حملة ضغط على سوريا تلزمها بالخيار سريعاً بين البقاء في دائرة الشر وتحمّل تبعات ذلك أو الانتقال إلى موقع آخر، وبالتالي القيام بما يجب عليها إزاء لبنان والمقاومة على وجه الخصوص
لكن كلمة السر الأفضل، هي التي لم يقلها سمير جعجع في مقابلته الأخيرة مع قناة «الجزيرة» التي وافق فيها براحة ضمير على أن ما تقوله إسرائيل صحيح: وجود حزب الله هو سبب أي حرب على لبنان. وما لم يقله جعجع على الهواء، قاله خلال إعداد المقابلة: هي ستة أشهر تقلّ أو تزيد قليلاً، وسوف تشنّ إسرائيل حرباً عنيفة تنهي حزب الله وسلاحه! ترى، ما هو توصيف موقف كهذا: تنبّؤات الحكيم ليلة رأس السنة أم رهان يعيدنا عقدين إلى الوراء؟