منذ 27 حزيران الماضي و"التيار الوطني الحر" الذي يتزعمه العماد ميشال عون، يشكل العقبة الوحيدة رسميا التي تعوق نجاح النائب سعد الحريري زعيم "تيار المستقبل" في تأليف حكومة جديدة وفي الوقت نفسه بدء مجلس النواب الجديد عمليه الاشتراعي والرقابي. ولئلا يعترض احد على ما ورد اعلاه باعتبار ان "التيار" لا يمثل كل المنضوين تحت لواء تكتل "التغيير والاصلاح"، نقول ان هذا التكتل هو الذي يشكل العقبة بكل مكوناته رغم اقتناع كثيرين من اللبنانيين ان الكلمة الاولى والاخيرة داخله كما داخل التيار هي للعماد عون. أما المكونات السياسية الاخرى داخل الاقلية النيابية التي يشكل "التيار" جزءاً اساسياً منها وفي مقدمها "حزب الله" وحركة "امل" وعدد من الاحزاب والتيارات والشخصيات الاخرى فتبدو مسلِّمة امرها وقرارها الى "الجنرال". وقد يكون ذلك عن اقتناع منها بقوته الشعبية والسياسية او بالاحرى بتفوقه عليها مجتمعة في القوة والنفوذ او عن قرار منها بتركه يقوم بهذا الدور تحقيقاً لغايات عدة، وهذا هو المرجح، قد يكون ابرزها اضعاف مسيحيي 14 آذار والاكثرية النيابية من خلال اظهار التيار بل تحديداً زعيمه المدافع الاول عن حقوق المسيحيين اللبنانيين والعامل الاول لاستعادة حقوقهم ومواقعهم وصلاحياتهم والضامن لوجودهم في هذه البلاد رغم ان العامل العددي اي الديموغرافيا لم يعد في مصلحتهم.
طبعاً فاجأ الوضع المفصل اعلاه المسيحيين. ذلك انهم لم يصدقوا انهم عادوا بيضة القبان في السياسة اللبنانية رغم ان ذلك قد يكون في امكانهم لو كانت بلادهم مستقرة ودولة القانون قائمة ومؤسساتها فاعلة ولو كان السلاح واستعماله حكراً عليها والفكر الديموقراطي مسيطراً على العقول والرؤوس والانتماء الى الوطن هو الاساس عند ابنائه ولو كان قادة المسيحيين على تنوعهم يعرفون بدقة اوضاع بلادهم والمنطقة ويتصرفون انطلاقاً من هذه المعرفة او بالاحرى يحددون دورهم ودور من يمثلون انطلاقاً منها. وكالعادة ساد الاوساط المسيحية الشعبية طبعاً بكل طبقاتها ومستوياتها الاختلاف. فبعضها مؤمن بأن المسيحيين استعادوا قوتهم وجوداً ودوراً بفعل "المخلِّص" الذي هو العماد عون. وهو غير مستعد لمناقشة مواقفه او التدقيق فيها او الظن ولو لوهلة انها قد تكون خطأ. وبعضها الآخر مؤمن بان القليل من القوة الذي بقي للمسيحيين سيتغير في يوم قريب نتيجة الاصطفاف المحلي والاقليمي لـ"الجنرال" الذي جعله مجرد واجهة للآخرين، غير المسيحيين بطبيعة الحال. وهو يجد نفسه مضطراً بحكم الامر الواقع الحالي الى تكريس اصطفافه المحلي والاقليمي المناقض لاصطفاف عون. وبذلك يصبح هو كما عون الوسيلة التي تساعد الحلفاء الاقوياء في صراعهم على حكم لبنان سواء مباشرة او بالواسطة.
في اختصار ليس الهدف من هذا الكلام "زكزكة" عون او اخصامه ولا ابراز نزعة طائفية غير موجودة اصلاً عند كاتب هذه السطور. بل هو توعية المسيحيين الى وضعهم الصعب ودعوتهم الى ايجاد حل له بالتعاون مع شركائهم في الوطن اي المسلمين. ذلك انهم لا بد ان يدفعوا الثمن اذا وجد مسلمو 14 آذار انفسهم خاسرين واذا حمَّلوا المسيحيين مسؤولية خسارتهم. كما انهم سيدفعون الثمن نفسه اذا وجد مسلمو 8 آذار انفسهم خاسرين ذلك. انهم سيحمِّلون مسيحيي 14 آذار مسؤولية ذلك، فضلا عن ان انتصار اي من فريقي 8 آذار و14 آذار بالاكثرية الاسلامية سيدفعه الى الكشف عن وجهه وممارسة السلطة الفعلية ولن يترك للمسيحيين الا "الصورة". وهذا امر موجود في دول شقيقة عدة.
ما العمل اذاً؟
ليس العمل تخلي العماد عون عن تحالفاته ولا تخلي مسيحيي 14 آذار عن تحالفاتهم بل هو تحلي الفريقين بالحكمة والتعقل والرصانة والرزانة والتخلي عن الاحلام المجنونة او الطموحات غير الواقعية سواء كانت فئوية او شخصية. وتخليهما عن دور الواجهة او الغطاء للآخرين. ومعرفة حجمهما بل حجم المسيحيين كلاً في البلاد. واخيراً تسهيل تأليف الحكومة وإن بشروط معقولة وغير تعجيزية بات يفرضها ميزان القوى الجديد في لبنان والمستند الى السلاح والديموغرافيا والى الحلفاء الاقليميين الذين بدأ المجتمع الدولي يستعد للتعامل معهم بعدما عجز عن الحاق الهزيمة بهم.
الى ذلك كله ربما يُفترض في المسيحيين على تناقضاتهم التي بلغت حداً مخيفاً ان يتصالحوا انسانياً ووطنياً مع استمرارهم موزعين على تياراتهم وتيارات الآخرين اي المسلمين. اذ ان غياب المصالحة سيجعل اقتتالهم حتمياً ولكن بالوكالة عن الآخرين. ولن يسامحهم ابناؤهم على ذلك لأنه سيكون القاضي على دورهم والوجود. وربما يفترض فيهم ايضاً ان يتصالحوا مع "اخصامهم" او ربما "اعدائهم" من المسلمين مع استمرار كل منهم على مواقفه، لان الحياة السياسية بل الحياة الوطنية هي تنافس لخير البلاد وشعبها او الشعوب وإن اتسم بالحدة احيانا. ولأن الخلافات مهما اشتدت لا تحل الا بالحوار. اما القتال فيحلها موقتاً لكنه يزرع مكانها الغاماً لا احد يعرف موعد انفجارها. وربما يجدر بالمسيحيين ان يتمثلوا بالزعيم الدرزي الابرز وليد جنبلاط الذي "كوّع" 180 درجة عندما وجد ان طائفته وزعامته صارتا في خطر بعد ايار 2008 وتأكد ان "المجتمع الدولي" لن يفعل له او لحلفائه شيئاً عملياً ينقذهم. علماً ان عارفيه يؤكدون ان ذلك لم يكن سهلاً عليه شخصياً ولا سهلاً على انصاره وحتى اخصامه من الدروز. مع الاشارة الى ضرورة ان تشمل مصالحات وليد بك المسيحيين على تناقضهم ولا تقتصر على المسلمين من اخصامه وحلفائهم الاقليميين درءاً لخطرهم عليه وعلى شعبه لانه بذلك يعطي اشارة غير مستحبة الى انه لا يصالح الا من ليس له قدرة على قتاله او فرض السلم عليه.