ثمن احتكار المقاومة – راشد فايد – النهار

ساءل عضو كتلة "الوفاء للمقاومة" النائب علي فياض "ما الذي يقوله السياديون ازاء الاستباحة الإسرائيلية التي تقوم بها طائرات التجسّس كل لحظة، فتراقب البيوت والطرق والمصانع والمنشآت المدنية والعسكرية اللبنانية؟" ولفت إلى "عدم جواز استمرار حالة التعايش مع الانتهاك الإسرائيلي للسيادة اللبنانية وكأنها أمر طبيعي مسلّم به، إذ انها مسألة وطنية يجب أن يتحمّل الجميع مسؤولية مواجهتها".

النص منقول حرفياً من صحف الاثنين، ويطرح فعلاً مشكلة وطنية جدّية، ليست مواجهة الانتهاك الإسرائيلي الجوي إلا أحد وجوهها. فالمشكلة الحقيقية التي يماريها سؤال النائب هي: هل بات اللبنانيون يفصلون بين حياتهم اليومية ومواجهة اسرائيل؟ وبمعنى أدق هل بات اللبنانيون يسلمون بأن التصدي لانتهاك سيادة لبنان هو اختصاص فئة منهم، لا يودّون، أو لا يجرؤون، على "ضرب" احتكارها له، فيمارسون حياتهم، فوق هذا "الهمّ الوطني" وخارجه، من باب التسليم بتقاسم "الأدوار الوطنية" المتفاهم عليه ضمنا بين الفئات والطوائف والكتل السياسية والنيابية؟
التساؤل عما يقوله "السياديون" يشي بتسليم القائل بأن التصدي المطلوب لا يتخطى الأقوال، فيما اللبنانيون سئموا بيانات الاستنكار التي لم تتوقف منذ عام 1948 من دون  ان  تنتج أي مردود، فلم تحرر مترا مربعا من الأرض المحتلة، ولا أطلقت أسيرا من معتقل. عدا عن أن التساؤل نفسه يؤشر الى أن المطلوب من كل جماعة سياسية أن يكون لديها جهاز رصد لـ"مناسبات" كهذه كي تسابق غيرها الى إصدار "بيان استنكار وتصد" فلا يسجل عليها تقصير في الوطنية. وبصرف النظر عن استخدام النائب وصف السياديين كتهمة، كأنما يحاول أن يقول انه ومَن معه  ضدّ السيادة الوطنية، وهو ما لا يمكن قبول الزعم به، من حيث المبدأ، فإن ما يطرحه يشجّع على دعوته إلى سؤال استطرادي: ما الذي يدفع اللبنانيين إلى عدم التوقف عند الانتهاكات الإسرائيلية، كما يشتهي النائب وكتلته، وماذا يفعل هو وكتلته في مواجهتها يومياً؟




ليس المطلوب إصدار بيانات إدانة يومية، فاعتياد ذلك سيجعل مشروعا، في يوم ما، السؤال ماذا بعد، ومنطق التسليم بدور الدولة يجعل من مسؤوليتها وحدها التصدي للانتهاكات، سواء بالعمل العسكري، إذا أمكن، أو بالاستنكار لدى الامم المتحدة وهو المفترض. بينما الحض المضمر على إغراق الحياة العامة بسباق بيانات غير مجدية لا ينطوي إلا على إضاعة المسؤولية الوطنية، وتمييع دور الدولة والسلطة الممثلة لكل اللبنانيين، ومعهم المؤسسة العسكرية التي يتسابقون على امتداح عقيدتها ودورها الوطنيين.

قد يدخل هذا النقاش في باب اللغو والمماحكة، لكن ما ليس كذلك هو التساؤل عن دور حزب المقاومة نفسه في وصول اللبنانيين الى سماع تساؤل النائب. فالصيغة التي حملته تشي بأن "الجميع" ليس واحدا في التنبه للانتهاكات، وان بين اللبنانيين كثيرين باتوا يتعاملون مع هذا الواقع وكأنه اختصاص مقصور على بعض منهم، تماما كما من اختصاص الشرطة تعقب السارق، ومن اختصاص الجيش حماية الحدود.

الأزمة الحقيقة التي يغضنها التساؤل هي أن المقاومة تحولت إلى "اختصاص"أو مهنة مغلقة ينفرد بمعرفة طقوسها فئة بذاتها، تمنع على غير المؤهلين، طائفيا ومذهبيا، التمرس بها، وتشكك بأي محاولة لصوغ مقاومة موازية، مسلحة أو ديبلوماسية (كما في حرب تموز 2006)، وتكاد تضعها في مستوى الخيانة. وهذه المقاومة راحت تفقد مسحتها الوطنية العامة بعد التحرير "الأصلي" عام 2000 عندما بدت في أعين الداخل الوطني تبحث عن مكافأتها، ليس كمقاومة لبنانية، بحيث تسعى الى الارتقاء بالنظام وتحديثه، وليس كمقاومة إسلامية تريد أن تعزز دور المسلمين فيه، بل كطرف أضيق فئوية من ذلك بكثير وأكثر تماشيا مع رؤى إقليمية أوسع من حدود لبنان بكثير.

أزمة المقاومة أن لها حزبا وهوية دينية لا ينفع معهما الكلام المطنب عن التماهي على كل المجتمع اللبناني، فكيف إذا أرفق بانطواء جغرافي وممارسة استكبارية تجاه الآخر، وتجارب مسلحة في التعامل مع الداخل من 7 ايار 2008 الى عين الرمانة المتكررة والتي لا يجزم أحد بأنها لن تتكرر في أي عين رمانة أخرى من دون أن ننسى عائشة بكار وراس النبع وغيرها.
يكفي للتذكير، أن أبرز ما يفاخر به العماد عون في تقريظه وثيقة التفاهم الشهيرة قوله "إنها تحمي المسيحيين" من دون أن يحدد ممن، لأن الجميع يعرفون المضمر والمعلن. فهل كان ليقول ذلك لو أن المقاومة ظلت حالة استقطاب وطني، كما حتى عام 2000، علما أن ملامح فئويتها كانت ترتسم قبل ذلك بكثير، لكن حلم اللبنانيين بالتحرير كان يتسع لكل التجاوزات؟

يضاف الى ذلك، في سلسلة الانكفاء عن العمومية الوطنية الى الخصوصية الطائفية، وحتى المناطقية، الخطاب السياسي بلهجة ومفاتيح دينية – مذهبية، وتمييز بالشرف والتضحية لأناس وتجاهل من احتضنهم يوم اعتدى الاسرائيلي على شرف الوطن وضحى الجميع، كل على قدر ما تيسر له من سلاح، قاتل أو حاضن.
السؤال الفعلي ليس عن عدم جواز ألا يتحمّل الجميع مسؤولية مواجهة الانتهاكات الاسرائيلية"، بل عن عدم جواز استمرار البعض في التصرف والايحاء أن صنعته الانفراد  بمواجهة اسرائيل وعلى الآخرين أن يعيشوا والبلاد على إيقاعه.