لم تعد ضحالة الزمن السياسي اللبناني تقف عند تقويض النظام والأصول والقواعد الديموقراطية، على ما تكشفه الأزمة الحكومية كحلقة اضافية في مسلسل منهجي موصول فحسب، بل باتت هذه الضحالة تضرب في عمق الركيزة الفردية لهذه الأصول التي يمثلها النائب بذاته.
النواب اللبنانيون أنفسهم لا يتنبهون الى المنقلب السلبي السيئ الذي ينزلقون اليه بسرعة هائلة بفعل الصورة المعممة الطارئة لتذويب الخصوصية التمثيلية والتفويضية للنائب، وهي خصوصية تلزمه إثبات قدرته الدائمة على التعبير الحرّ المستقل حتى عن كتلته نفسها ولو انضوى ضمن عمل كتلوي او جبهوي معين.
ما يدفع الى إثارة هذه الظاهرة السلبية ان "التقليعة" الأخيرة في الأزمة الحكومية عزيت الى ما سمي معركة التصريحات والتسريبات من جهة الغالبية والرد عليها من جهة المعارضة.
من دون حاجة الى التعرض لرموز هذه المعركة وحساباتهم وتحالفاتهم وارتباطاتهم ومواقعهم على ضفتي الصراع السياسي، ثمة إهانة موصوفة في المعايير الديموقراطية الصرفة وحتى في معايير الكرامة الشخصية مع تصاعد صورة النائب كأنه مجرد بوق زجلي يردد الصدى المطلوب ثم يصمت بفعل طلب مقابل. النائب، سواء كان أكثرياً أم معارضاً ام مستقلاً، هو نائب "بالعيار" التفويضي والتمثيلي لرئيس الكتلة، سواء بسواء ولا شيء في معايير التمثيل يمحض اي زعيم سياسي، مهما بلغ حجمه وتأثيره السياسي، حق مصادرة "صوت" نائب في كتلته او حقه في التعبير في اي لحظة وبالطريقة التي يريدها.
هذا المفهوم الغريب الطارئ لتحويل النواب في المجموعات البرلمانية والكتل ناطقين على الطلب وصامتين على الطلب هو انعكاس خطير لظاهرة شوفينية زعاماتية من جهة، ولنزعة أخطر نحو تحويل الكتل احزاباً ديكتاتورية تدين بالإمرة المباشرة والطاعة العمياء لزعيم الكتلة. وليس أدل على اهانة النائب وصفته التمثيلية عن مجموع ناخبيه في الدائرة المباشرة، وتالياً عن مجموع "الأمة"، سوى مصادرة الزعيم للسلوكيات الفردية لنواب كتلته، وانصياع هؤلاء لهذه الزعامة كأنها قيادة عسكرية لسرايا مقاتلة.
هي ظاهرة خطيرة جداً تحت وطأة التسليم بقواعد طارئة من وحي الاصطفاف السياسي والدافع المصلحي للنائب الذي يخشى الخروج على الطاعة تحسباً للدورات الآتية، فاذا بمعظم النواب يخرجون على الناس بمنظومات السجالات دفعة واحدة ثم يصمتون معاً.
اضف الى ذلك ان انصياع النائب لموجبات الكلام والصمت تبعاً "للأوامر العليا" يضعه في موقع المساءلة المباشرة، اذا بقيت في لبنان بقايا احترام لما يسمى الرأي العام.
فحق الناس في المعرفة ليس صنيعة مزاج زعيم او مصلحة زعيم آخر او سلوك و"ثقافة" اي زعيم على الاطلاق. الشفافية الديموقراطية الحقيقية تجافي كل الهرطقات الجارية في أزمة تأليف الحكومة العتيدة التي يمضي غداً شهرها الرابع وسط أكبر مهرجان هزلي للمعمّيات في بلد يفاخر انه بلد المعرفة والحريات والانفتاح. يجري هذا المهرجان المتخلف وسط موجات وتقلبات تنحصر معها "المعرفة" بخلية ضيقة من السياسيين، فيما أكثر من اربعة ملايين لبناني عرضة لفتات التسريب المبرمج من هنا وهناك، ولا أفق واضحاً بعد لنهاية هذه المهزلة.
فكيف لنائب ان يسكت على الأقل عن تفويض ابتلعته هذه الأزمة في أول طريقه وهو لم يبلغ سدّة البرلمان بعد؟