كلام الرئيس ميشال سليمان في السفراء العرب في مدريد يشكّل تعبيراً عن الآمال والطموحات، أكثر من كونه وصفاً للواقع المزري الذي يتخبط فيه لبنان.
لا، لبنان لا يشكّل "مساحة وطيدة للعلاقات العربية – العربية ولإدارة المصالحة والحوار في ما بينها"، على ما أشار الرئيس، بمقدار ما شكّل ويشكّل حلبة للملاكمة بين الدول العربية وساحة مفتوحة لتصفية الحسابات، ومشاعاً سائباً لتوجيه الرسائل والعضّ على الأصابع أيضاً، بين القوى الاقليمية والدولية وعلى خلفية صراعات استراتيجية معلنة.
ولقد وصلت هذه الصراعات في وقت سابق الى حد قول كوندوليزا رايس مثلاً ان لبنان يمثل "خط الاعتدال في وجه التطرف" بما يعني في نظرها انه قاعدة لمواجهة النفوذ الايراني والسوري. فجاء الرد من آية الله علي خامنئي الذي دعا الى إلحاق الهزيمة بأميركا في لبنان، فكان ان تحولت "انتفاضة الاستقلال" في نظر طهران ودمشق هدفاً اميركياً يتعين اسقاطه.
❑ ❑ ❑
وعندما يتحدث رئيس الجمهورية عن لبنان كمساحة وطيدة للحوار والمصالحة على المستوى العربي، فانه يعرف ضمناً بالتأكيد ان كثيرين من اللبنانيين سيهمسون في سرهم: "يا حسرتي"، باعتبار ان لبنان لم يستعد دوره الطبيعي او لم يهتد اليه حتى الآن، كمساحة للحوار والمصالحة بين أبنائه.
ان الدليل الموضوعي الراهن، على ذلك، ان الرئيس المكلف تشكيل الحكومة سعد الحريري، يبذل منذ مئة يوم تقريباً جهوداً حثيثة، متحلياً بالصبر وطول الأناة والانفتاح غير المحدود والاصرار على حكومة وحدة وطنية تجمع كل الاطراف في وقت استثنائي جداً، حيث تفرض الحرائق المندلعة في المنطقة، أقصى درجات التعاضد بين اللبنانيين، ولكن من دون ان يتمكن من معالجة الشروط العرقوبية المحلية والعقد الخارجية ويصوغها في تشكيلة واحدة مقبولة من الجميع!
ولأن الوضع المأسوي بين الدول العربية يشبه الى حد بعيد الوضع الكارثي بين اللبنانيين، فلا بد من أن جلسة استماع السفراء العرب الى الرئيس سليمان، قد تحولت جلسة انتحاب صامت ومرّ على لبنان والعرب. فنحن عملياً في منطقة مصابة بلعنة الانقسام والخلافات، ولعل المؤسف أكثر من غيره في هذا السياق، ان الفلسطينيين الباحثين عن وطن ضائع متقدمون في الصراعات، كما ان اللبنانيين اللاهين عن وطن يضيع ليسوا مقصّرين في انقساماتهم. فإذا اضفنا الى هذا، نقاط الخلاف و"الالتهابات السياسية" الكثيرة ابتداءً من الصحراء المغربية الى الصومال مروراً بالسودان وصولاً الى اليمن الذي تحترق "سعادته" بنيران الحوثيين، التي قد تشعل الخليج كله، يصبح في الامكان ان تقف المجموعة العربية مثل فرقة من الندّابة لتصيح: كلنا في البؤس عرب!
❑ ❑ ❑
ولكي تكتمل حلقة الأمل والتمني واستمطار التفاؤل بالخير على أمل ايجاده، لم يفت الرئيس سليمان ان يشير الى ان انتخاب لبنان عضواً غير دائم في مجلس الأمن، هو أمر في غاية الأهمية يعني لبنان والدول العربية، لأن لبنان سيكون صوت الدول العربية الفاعل والمؤثر في خدمة الحق العربي لدى أعلى منبر دولي.
نظرياً هذا الكلام صحيح، بل انه قمة التمني والرجاء. ولكن ثمة تساؤلات محقّة في لبنان والمنطقة وحتى في المحافل الدولية، تدور حول قدرة لبنان، الذي يعجز حتى الآن من ادارة شؤونه وحلّ مشاكله وخلافات اهله، على امتلاك المؤهلات والصدقية والتأثير، التي تؤهله للمشاركة في ادارة شؤون العالم ومشاكله الكثيرة عبر عضويته في مجلس الأمن.
ولعل ما يثير الأسف فعلاً، ان العالم الذي ينزلق نحو الحروب والعداوات البغيضة، على أساس الدفع الصهيوني الواضح نحو صراع الحضارات والاديان، كان يمكن ان يكسب صوتاً واعياً ومؤثراً وداعياً بصدقية أكثر، الى ايديولوجية التعايش والحوار بين الاديان والاتنيات، عبر وجود لبنان في عضوية مجلس الأمن. ولكن ثمة دائماً من سيقول في سره عن "الرومانسيات" اللبنانية المتوقعة في ذلك المنتدى الدولي الارفع:
طبيب يداوي الناس وهو عليل؟!
❑ ❑ ❑
وفي هذا السياق تحديداً لا أضيف شيئاً الى هذا الواقع، اذا قلت إنني، خلال مشاركتي بصفتي عضو المكتب التنفيذي للجنة الوطنية للاونيسكو في المؤتمر الدولي الخامس والثلاثين للمنظمة الذي عقد في باريس، تعرضت لوابل من الأسئلة من مندوبين عرب وأجانب عن ذلك الواقع "المتناقض"، حيث سيكون مطلوباً من بلد يعجز عن تشكيل حكومته ان يحل مشاكل حكومات العالم!
في أي حال، عندما التقى الرئيس سليمان السفراء العرب في مدريد، لا بد من ان يكون تاريخ الأندلس قد تسلل الى المكان. ولا بد أيضاً من ان يكون بعض اصحاب السعادة السفراء قد تذكروا التاريخ العربي هناك. وتحديداً ما قالته عائشة لولدها المنكود ابو عبد الله محمد بن الأحمر آخر ملوك العرب الذي خسر الأندلس:
"أبكِ كالنساء على ملك لم تحافظ عليه كالرجال"!
هذه المرة ليست الأندلس هي التي تضيع، بل امكنة كثيرة بين المحيط والخليج!