مضت ثلاثة أشهر على ظهور نتائج الانتخابات اللبنانية، ولا يزال الجدل دائراً حول من فاز فيها: هل هي الاكثرية النيابية كما اظهرت صناديق الاقتراع ام «الاكثرية الشعبية» كما اعلن السيد حسن نصرالله في اعقاب النتائج؟
مهما قيل في اسباب الازمة الحكومية العالقة اليوم في لبنان، فإن السبب الحقيقي لهذه الازمة يعود الى عدم حسم الخلاف بين هاتين النتيجتين، او قل الى عدم القبول بنتيجة العملية الانتخابية، بعدما عجز المعترضون عن تعطيلها. كان المعارضون يقولون قبل الانتخابات: دعونا نخرج من المأزق السياسي بانتخابات مبكرة وليفز فيها من يفوز وليحكم بناء على ذلك! وعندما جاءت النتائج على غير ما كانوا يتوقعون لم يعد مسموحاً للأكثرية التي فازت أن تفرض تفوقها العددي في عملية تشكيل الحكومة، كما يفترض المنطق والعرف الديموقراطي. فلا الاكثرية قادرة على ذلك، ولا المعارضة قابلة بالتخلي عن قدرتها التعطيلية المتمثلة في عجز اي ائتلاف حكومي عن المجيء بمن يمثل الطائفة الشيعية إلّا برضاها. وصار مجرد اجتماع نواب الاكثرية كما حصل قبل يومين تهمة تستحق الادانة وتوصف بأن الهدف منها هو تعطيل مساعي تشكيل الحكومة.
وهكذا فقد امتد «نموذج» انسحاب الوزراء الشيعة في مرحلة الشلل الحكومي الشهيرة ايام حكومة الرئيس فؤاد السنيورة ليتكرر مع محاولات تشكيل الحكومة الحالية. وخلاصة موقف المعارضة هو: اذا كنتم قادرين تجرأوا وشكلوا حكومة من دون التمثيل الشيعي الذي نرضى عنه! وهو المأزق ذاته الذي واجه السنيورة آنذاك، على رغم ان البلد كان ولا يزال حافلاً بالشخصيات الشيعية ذات الاعتبار التي تستطيع تمثيل طائفتها بكل جدارة.
هذا السلوك التعطيلي يمتد كذلك الى موقف زعيم «التيار الوطني الحر» النائب ميشال عون الذي رفع السقف بمطالبته بتطبيق النسبية في التشكيل الحكومي، وفي حسابه ان حصته تصل الى ستة وزراء ثم تنازل الى خمسة، وهو ما يعطيه الحصة الاكبر من المقاعد المارونية في الحكومة، وذلك على رغم ان الفريق المعارض الذي ينتمي اليه لم يفز بأكثرية مقاعد مجلس النواب.
ما يعنيه طرح كهذا من الناحية العملية أن تطبيق قاعدة «الشراكة الوطنية»، التي تدعو اليها المعارضة، سوف ينتهي في واقع الامر بتقاسم المقاعد الوزارية بين من يسيطرون على مقدرات طوائفهم، بصرف النظر عن حجمهم التمثيلي على الصعيد الوطني العام. وقد اوضح النائب عن «حزب الله» نواف الموسوي هذا الموقف في كلمة القاها قبل ايام، وقال فيها انه لا توجد اكثرية واحدة في لبنان، بل هناك «اكثريات» يجب احترام كل منها وتمثيلها في الحكومة على هذا الاساس. وبالتطبيق لا يعني ذلك سوى القضاء على فكرة كسر احتكار الأحزاب صاحبة النفوذ للتمثيل الطائفي، وهو ما يمكن أن يفتح الباب أمام تمثيل وطني اشمل واوسع. فالحاصل حالياً أن الزعيم الماروني الاوسع تمثيلاً يدافع عن حصته المارونية وكذلك يفعل الزعيم الشيعي، ومثلهما يفعل الزعيم الدرزي فينقلب موقفه السياسي رأساً على عقب خدمة لمصالح طائفته، ولا يلقى هذا الانقلاب سوى اشادة من الفريق المعارض ذاته الذي كان يكيل له بالأمس كل انواع الاتهام.
لسنا إذن أمام «شراكة وطنية» ولو اطلق عليها ذلك. نحن أمام تقاسم الحصة الحكومية بين الطوائف والمذاهب. اي اننا لسنا امام تمثيل «اكثريات» في الحكومة، بل نحن امام تفكيك النسيج الوطني بين من هم الاعلى صوتاً في الدفاع عن المصالح الطائفية، ولو اطلقت عليها اسماء اخرى. وقد يكون هذا هو الثمن الاعلى الذي سيدفعه لبنان لانجاب هذه الحكومة التي يطلق عليها زوراً اسم «حكومة وحدة وطنية»، من دون ان يكون فيها شيء من الوحدة او الوطنية.