لم يكن الاجتماع الأول للغالبية النيابية في قريطم موفقا كثيرا في المقلب المبدئي الصرف على الاقل الذي يفترض ان يلزم فريق 14 آذار نظرا الى مساره الام الاصلي الذي طبعه منذ نشأته عام 2005.
بطبيعة الحال يمكن ركون هذا الفريق الى الكثير من الاعذار والذرائع الواقعية والجادة في تأخره نحو ثلاثة اشهر ما بين تحقيقه انتصارا انتخابيا موصوفا و"ظهوره" في صورة استعادة زمام المبادرة وقبضه على ناصية الاكثرية في توقيت الاجتماع. غير ان هذه الاعذار تبقى في النهاية في خانة تخفيف وطأة كبوة حقيقية سياسية ومعنوية على مستويين على الاقل. الاول قصور الغالبية بفعل سياسات متفردة وآحادية فيها عن توظيف انتصارها الانتخابي، مهما تكن بلاغة التبرير ووجاهته.
والثاني محاولة استدراك متأخرة جدا لمبدأ صارم هو رفض التفريط بصلاحيات رئاستي الجمهورية والحكومة في تشكيل الحكومة ومنح اي فريق سياسي حق تقييدهما بالشروط والمطالب الفئوية.
ومبدأ ان يأتي الامر متأخرا خير من الا يأتي ابدا يصح في مسائل سياسية اجرائية وعملية من باب استلحاق الخسائر، وهو شأن مألوف في يوميات السلطة والسياسة.
اما في شأن مبدئي يرتبط به مصير فريق تشكل معركته الدستورية مع خصم موصوم بطبائع انقلابية ذي امتدادات اقليمية معروفة، فان هامش التبرير والتسامح يغدو معه ضيقا الى اقصى الحدود بما يعرض فريق الغالبية لمزيد من الارباك ما لم يكن في حوزته سلوكيات سياسية جديدة يطل بها على قواعده وخصومه لاثبات جديته المطلقة في التزام الجانب المبدئي والدستوري.
لقد جاء رفض الغالبية لمبدأ اخضاع رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة المكلف للشروط المسبقة في الهزيع الاخير من المخاض الحكومي كأنه ضربة سيف في المياه. وعلى الاحقية المطلقة غير القابلة للجدل لهذا المبدأ الدستوري، بدا بيان الغالبية لهذه الناحية كأنه يتجاهل ما سلم به واقعيا في كل المرحلة السابقة التي اتسمت بسعي الرئيس المكلف الى التوفيق بين مطالب الافرقاء والمبدأ الدستوري، ولكن جرى اخذ المطالب السياسية في الاعتبار والا لما كانت الولادة الحكومية قطعت معظم اشواطها لتقف عند رزمة المطالب الاخيرة للعماد ميشال عون. ولعله كان من الافضل كثيرا لفريق 14 آذار ان يطل بلغة واقعية تسووية في هذا المجال قد تجد تبريرا له وصدقية اكبر من التزام نهج مبدئي صارم كلاميا فيما الترجمة هي غير ذلك تماما.
الامر الآخر يتصل بالافراط المضخم في تأكيد المؤكد كأنه يشي، ضمنا، بخشية من تفلته من يد الغالبية. فليس ما يبرر هذه اللهفة على تأكيد الاكثرية لأكثريتها حتى "انقلاب" الزعيم وليد جنبلاط في 2 آب. هذه الأكثرية ليست رقمية او عددية فحسب في الواقع اللبناني مهما تشاطرت الدعاية المعارضة في محاولة تشويهها وتجويفها. وحتى في معرض المحاولات الدؤوبة من المعارضة وداعميها الاقليميين للانقضاض على الانتصار الانتخابي، الاكثرية الحقيقية في لبنان باتت امرا واقعا مثبتا مرات عدة، حتى مع تعثر الفريق السياسي الذي يمثلها. والدوافع لتشكيل وحدة وطنية لم تتمكن من ازالة الواقع الاكثري شعبيا بدليل ان الهجمة الشرسة الناشئة على المحكمة الدولية انطلقت اخيرا من زاوية توقيت سياسي في الدرجة الاولى متصل باخفاق واضح في توجيه الضربة القاصمة الى فريق الغالبية.
لا يعوز 14 آذار ان تشهد لنفسها بأكثريتها مقدار ما يعوزها الثبات التام على مبدئيات لا يجوز المساومة عليها تحت اي ظرف واي وطأة. وما دامت قدمت شهادتها في الانفتاح والاعتراف بالآخر، اكثر بكثير مما دلل هذا الآخر على قابليته لالتزام الميثاقية والديموقراطية في آن واحد. مثل هذا الوهن المبدئي بات يوفر للمعارضة وداعميها مزيدا من الاحلام الانقلابية، وهنا يكمن سر "الجرجرة" في اسر الولادة الحكومية.