الانجاز المؤجل – مروان اسكندر – النهار

ارتاح اللبنانيون هذا الصيف مع تزايد الاقبال على الاصطياف في البلد، واستمرار زيادة الودائع في المصارف، وتكليف رئيس وزراء واعد، وتحسّن ظروف دول الخليج الامر الذي عزز مجال استمرار نجاح العديد من اللبنانيين والشركات اللبنانية.
فورة التفاؤل هذه آخذة بالانحسار.  فعدد الزوار انخفض مع حلول شهر رمضان المبارك، وتأليف الحكومة تواجهه صعوبات سخيفة في ظاهرها انما عميقة في ابعادها، لان ذلك يوحي ان نية الاصلاح الحقيقي والانجاز الفعال غير متوافرة لدى الفريق المعطِّل حتى تاريخه.
هذه الصورة تبدو محزنة من بعيد.  فالمسافر في جنوب فرنسا أو سويسرا يلتقي لبنانيين ومواطني دول عربية ناجحين في أعمالهم على نطاق دولي، يتحسرون على انعدام فرص ممارسة العمل من لبنان بنجاح بسبب تردي خدمات الاتصالات وتكاليفها المرتفعة، وانقطاع الكهرباء والحاجة الى تعويض ذلك بالتجهيز الوقائي الاستثنائي بالمولدات المكلفة، سواء على صعيد ثمنها أو كلفة المحروقات أو تلوث البيئة.
رجال الاعمال هؤلاء يطلبون من لبنان، كي يكون بالفعل مرتكزاً لاعمالهم، تسهيلات ادارية وخدمات اتصالات حديثة بتكاليف معتدلة. كما يطلبون توفير الكهرباء والمياه النظيفة من دون تقطع، ونظافة البيئة، وتسهيل اجراءات التقاضي ورسوم الدعاوى المعقولة.
وهذه مطالب تبدو من صميم ما يحتاج اليه المواطن العادي، وهي تعتبر من البديهيات في البلدان المتطورة، لكنها باتت من المستحيلات في لبنان لان القرار التجهيزي والتشغيلي اصبح رهناً بالقرارات السياسية التي هي بدورها مرتهنة برغبات


 رؤساء الطوائف والأحزاب، وكل طرف يريد تحصيل القدر الاكبر من المنافع مما يؤدي، بعد التناتش بين مختلف هذه الفئات، الى ضمور المنفعة بل زوالها، وفي احيان كثيرة،  كما بالنسبة الى شؤون البيئة، يؤدي التنافس السياسي الى تعميق الازمة وتوسيعها.
ولنفترض ان لبنان يستطيع في غضون ستة أشهر زيادة طاقة الانتاج الكهربائي 600 ميغاواط، أي ما يعادل نسبة 25 في المئة من الطاقة النظرية المتوافرة، علما بان مستوى الطاقة المنتجة أقل بكثير.  ولنفترض ايضاً توافر الغاز الطبيعي من سوريا أو من مصر عبر شبكات الانابيب المنجزة أو التي هي قيد الانجاز، أو من ناقلات الغاز الطبيعي السائل التي تعزز بمعامل لتحويل الغاز السائل الى غاز طبيعي، ومن ثم تشغيل مصفاتي البداوي والزهراني بطاقتيهما الكاملتين، فماذا ستكون النتيجة؟
توافر الكهرباء قبل حلول فصل الصيف المقبل طوال 24 ساعة، وانخفاض كلفة الانتاج من 13 سنتا لكل كيلواط ساعة الى ثمانية سنتات، وانخفاض حاجات استيراد المازوت لتشغيل المولدات الخاصة، وكلها امور تخفض كلفة مستوردات الطاقة ما لا يقل عن 400 مليون دولار سنوياً، وعجز الكهرباء ما لا يقل عن 600 مليون دولار سنوياً.
هذه النتيجة شبه مضمونة في مجال الكهرباء أكبر مسبب للعجز في الانفاق أو الدعم الحكومي، وهو يؤدي بسبب التقطع المستمر الى انخفاض الانتاجية وزيادة تكاليف المؤسسات الصناعية والخدماتية. ان تأمين الكهرباء في كل انحاء لبنان ولجميع اللبنانيين والزوار أمر لا يتعارض مع المطالب الفئوية، بل انه بالفعل يؤدي الى سلب المتسلطين على الشأن العام بعض سلطاتهم المسيئة الى البلد ككل من أجل اكتساب منافع محدودة لفئات معينة.
ان منافع تأمين الكهرباء بصورة متواصلة وفعالة وبأقل كلفة خلال فترة زمنية قد تراوح بين ستة وتسعة أشهر، في حال توافر القرارات والتصميم على الانجاز، تقابلها منافع مماثلة وربما تفوقها أهمية من مباشرة تنفيذ مشروع نهضوي وطني للحفاظ على الموارد المائية، وتنقية المياه الجوفية وتأمين امدادتها لحاجات الاستخدام المنزلي والصناعي والزراعي والسياحي.
ان تنفيذ برنامج وطني للمحافظة على مصادر المياه يحتاج بكل تأكيد الى سنوات.  لكن خطوات التحسين يمكن ان تبدأ في وقت قريب، وتؤدي الى توفير حاجات المنازل في أشهر لا في سنوات. وتاليا، ان الخطة الوطنية المطلوبة لا بد ان تتمثل بخطوات متتابعة ومترابطة تفضي الى توسيع المنافع من توافر المياه وتعميمها.
الامر العجيب هو ان السياسيين اللبنانيين لا ينظرون الى الفائدة العامة، بل يحصرون انتباههم بمناطق وفئات، علما بان الكهرباء والمياه من مقومات الحياة في أي مجتمع، والتقصير في توفير مصادر الطاقة والمياه يؤدي الى تراجع مستويات الحياة المدنية، كما الى قصور القدرات الانتاجية عن تحقيق كامل ما تستطيع تأمينه من الانتاج، إن على صعيد توفير السلع أو على صعيد الخدمات.





قبل وقت قريب توافرت لي معلومة تقدم البرهان على منافع اتخاذ القرارات وتنفيذها في مجالات الخدمات العامة، ولعل هناك افادة للمسؤولين في لبنان من هذه المعلومة.
قبل ثلاث سنوات كان عدد المشتركين في خدمات الانترنت في تركيا، بلد السبعين مليوناً، لا يتجاوز الـ 200 الف مشترك. وطورت تركيا هذه الخدمات وجهزت وسائل التواصل على أفضل مستوى وخفضت رسوم الاستعمال، فكانت النتيجة ان ارتفع عدد المشتركين في خدمات الانترنت السريعة في هذا البلد الى سبعة ملايين ولما كانت كلفة التواصل بهذه الوسيلة أقل من كلفة التهاتف، فقد انخفض عدد المشتركين في خدمات الهاتف الارضي مليوني مشترك.
وكانت النتيجة الاجمالية لهذا التطور ان انخفضت تكاليف الاتصالات بالنسبة الى المشترك، وازدادت كثافة التواصل، وتحسّن الانتاج مما دفع تركيا، قياساً بهذا الانجاز وغيره، نحو تسلق الموقع الاقتصادي الثاني عشر في الاهمية عالمياً.


في لبنان لدينا طاقات بشرية شابة نادرة المواهب والعلوم، وعندنا طقس يتميز بفصوله الاربعة، وكنا نتمتع بطبيعة خضراء كدنا ان ندمرها، وقد استطعنا، وخصوصا في سني حكم الرئيس رفيق الحريري، انجاز القسم الاكبر من اعادة اعمار البلد، بما فيه تجهيز معامل انتاج الكهرباء.  لكننا توقفنا عن التطوير وسمحنا بتدهور خدمات الصيانة والتوزيع، وأهملنا موضوع المياه، وتراجعنا بالفعل عن مستويات المعيشة السابقة على رغم ازدياد عدد السيارات وحجم الاستيراد وودائع المصارف.
ان الموضوع الحقيقي في الانماء هو نوعي وليس كمياً، وإهمال النوعية يؤدي الى تراكم المفاعيل السلبية للاهمال والاستئثار، فعسى، بعد طول انتظار، ان نجد أمامنا حكومة للانجاز لا للانحياز، وتطلعاً الى مستقبل قريب نسير فيه قدما بدل التقهقر الذي ساد سنوات طويلة.