بمعزل عن المقاومة وسوريا و14 آذار وحسابات الأكثرية والأقلية، وبعيداً عن الحكومة المقبلة وتعقيداتها، أخطر ما طرحه جنبلاط في انقلابه الأخير، هو إعادته النظر في علّة وجود لبنان. فمن هناك، من قرب حنينه إلى أبو يعرب وأبو عبدو وجامع جامع، حدد جنبلاط «المعارك الأساس»، باعتبارها «في مواجهة الإقطاع والرأسمالية والرجعية وتأكيد عروبة لبنان بالالتصاق بالقضية الفلسطينية ودعمها»، وتزكيةً لهذا الطرح راح يعدّد محطات «جوهره» هذا، من ثورة الجزائر إلى حلف بغداد، ومن عدم الانحياز إلى الأممية
الماركسية، ولم ينسَ الاعتراف بالصين الشعبية وألمانيا الديموقراطية وكوريا، علماً بأن استذكاره هذا لم يأتِ موفّقاً على الإطلاق. ذلك أن الكل يذكر قصة والده مع فؤاد شهاب. كان يأتيه بلائحة مطالب لا تنتهي. كان دائماً مطلعها الاعتراف بالصين الشعبية، لتنتهي غالباً بتعيين موظف أو حاجب أو انتفاع أو محاصصة.
فبعد فترة، صار الرئيس الأمير اللواء، المنحدر من عائلة «لدودة» يقول لكمال جنبلاط عند مقابلته وسحب عريضة مطالبه: «بلّش من الآخر…».
والآخر لدى وليد اليوم زعامته ومصلحته، وهو الأمر الثانوي والعرضي والهامشي، حيال جوهر لبنان، وهو الحرية. فلكل كيان دولتي «علة وجود» تنشق من «لحظة التكوين» الخاصة به. وعلّة وجود هذا الوطن هي الحرية لا غير، لا العروبة وهي كانت قبله. ولا قضية فلسطين، وهي استجدّت بعده، على الأقل، لناحية طابعها القانوني الدولي. بل يمكن القول إن أعظم رسالة أو دور أو وظيفة، يمكن أن يؤدّيها لبنان، للعروبة أو لفلسطين، هي في أن يحفظ علّة وجوده، وفي أن يصون «الحرية» كمبدأ وكواقع، وأن يجسّدها في نظام حديث معاصر. فيعطي للعروبة وجهاً افتقدته منذ قيام إشكاليتها الثقافية والسياسية. ويعطي للقضية الفلسطينية نموذجاً مناقضاً لعدوّها الجوهري، ألا وهو الكيان الصهيوني. وحده «لبنان الحرية» يكون حاجة للعروبة وضرورة لنضال فلسطين. وهو ما أشاح عنه جنبلاط في انقلابه الأخير.
أصلاً، ليس وليد إلا النموذج الأخير لهذه العائلة المالكة على تلك «الأمة القلقة» التي منذ بداياتها العائلية في منتصف القرن السادس عشر، وصولاً حتى اليوم، كانت تتأرجح بين خيارين نقيضين، إما الانفصال، وإما الانصهار. منذ البداية مع علي باشا جنبولاد، كان زعيم العائلة الأول على خيار الانصهار بالسلطنة العثمانية في العقد الثاني لقيامها. حتى قرر الانفصال عنها والاستقلال في حلب، فردوا عليه بقمعه وإعدامه.
وصولاً إلى فؤاد جنبلاط، جد وليد، الذي مثّل خيار «الانصهار» مع الانتداب، ما جعله يدفع حياته ثمناً. ولم يشذّ عن قاعدته نجله كمال، الذي تقلّب بين أمميته أو عروبته الانصهاريتين، وبين نزعته الانفصالية يوم كشف لحافظ الأسد سرّه: «حكمونا 140سنة وآن أوان الثأر»، فدفع حياته ثمن ركوبه موجة أبو عمار.
رقصة عقرب ساعة الحائط نفسها، يكرّرها اليوم وليد جنبلاط. ذهب إلى أقصى «الانفصال مع تشيني وولفوفيتز، ويعود في حركة «نيوتنية» الآن إلى أقصى «الانصهار» مع أممية مرتجلة وعروبة غب الطلب وتهديده لمن لا يرى أبعد من خربة سلم، فيما حقيقته أنه لم يرَ بعد أبعد من بيت الحزب في بريح وأنقاض دير دوريت.
لبنان الحرية، وحده ينقذ جنبلاط وجماعته من الانقلاب الأزلي بين الانفصال أو الانصهار