الحياة الطائفية تنتعش والحياة الوطنية تحتضر – كريم بقرادوني – السفير

في لبنان الكثير من الطائفية والقليل من الوطنية، والغرائز الطائفية تطغى على المشاعر الوطنية، الى حد يمكن القول معه إن الحياة السياسية تتهاوى يوماً بعد يوم وتقوم على أنقاضها الصراعات الطائفية التي سرعان ما تتحول الى نزاعات مذهبية بدل أن ترتقي الى مصاف الوفاق الوطني.
ويعزّ علي القول إن الدولة تتراجع، وهي تمشي الى الوراء اعتقاداً منها أنها تتقدم ولكن نحو المأزق. في المقابل، تستشرس الطوائف والمذاهب في قضم سيادة الدولة الى درجة تحولت فيها كل طائفة الى دولة داخل الدولة، وباتت الحياة السياسية خارج الطوائف شبه معدومة، وكل الحراك السياسي يدور داخل الطوائف وفي ما بينها في شتى المواضيع والاستحقاقات، سواء كان الموضوع أو الاستحقاق تشكيل حكومة أو تعيين موظفي الفئة الاولى أو إجراء انتخابات بلدية أو نيابية.
والحقيقة أن الزمن لا يلعب لمصلحة الدولة، ولا لمصلحة العلمنة، ولا حتى لمصلحة إلغاء الطائفية السياسية التي نصّ عليها اتفاق الطائف. ويخيل لي أن السياسيين والمفكرين الذين ساهموا في صياغة الدستور اللبناني في العام 1926، ومن بعده التفاهم على الميثاق الوطني عام 1943، كانوا أقل طائفية وأكثر وطنية مما هم عليه السياسيون في الوقت الحاضر. وكان سياسيو مرحلة إعلان «لبنان الكبير» والاستقلال يشعرون بشيء من الخجل عند طرحهم الصيغة الطائفية لحكم لبنان، في حين أن الطبقة الحالية الحاكمة باتت تتباهى بهذه الصيغة، وتتمسك بها طريقاً سهلاً لتوزيع المغانم بين أطيافها، فحكمت الطوائف محل الأحزاب، وصار لكل طائفة حزبها أو أحزابها، وتراجعت السياسة وازدهرت الطائفية.

هذه الخلاصة الموجعة تحملني على أن أكون قلقاً في نظرتي الى المستقبل اللبناني، خصوصاً أن اللبنانيين كشفوا عن عدم قدرتهم أو عدم رغبتهم في إدارة شؤونهم. فهم تقليديون الى أقصى الحدود، وتتغلب عليهم النزوات الفردية والمصالح الخاصة، فلا ينكبّون على الشأن العام، وهم يخشون كل أنواع التغيير والإصلاح. ويؤسفني أن أرى اللبنانيين يتخلفون فكرياً وسياسياً يوماً بعد يوم، في حين كانوا الأكثر تقدماً في الشرق وأصحاب النهضة في الفكر والصحافة وحقوق الإنسان، وفي مقدمها حقوق المرأة في العالم العربي.
أيام الانتداب وفي مطلع الاستقلال، توافق اللبنانيون على نظام التمثيل الطائفي بصورة خجولة ومؤقتة ومشروطة، فجاءت المادة 95 القديمة من الدستور كالآتي: «بصورة مؤقتة والتماساً للعدل والوفاق، تُمثل الطوائف بصورة عادلة في الوظائف العامة وتشكيل الوزارة دون أن يؤول ذلك الى الإضرار بمصلحة الدولة».




أقرّ واضعو الدستور والميثاق صراحة بأن النظام الطائفي مرحلي، ومبرره العدل بين الطوائف، وشرطه أن لا يتعارض ومصلحة الدولة، ولا أظنهم تصوروا لحظة أن ما صاغوه لمرحلة مؤقتة ومشروطة سيبقى معمولاً به بعد ثلاثة وثمانين عاماً تخللتها أحداث دامية العام 1958 وحرب مدمرة العام 1975 استمرت 15 سنة، إضافة الى اجتياح إسرائيلي العام 1982 ردت عليه المقاومة اللبنانية بمعجزة الصمود والتحرير التي لم يكن يتوقعهما أحد عامي 2000 و2006. وقد توالى على الحكم اثنا عشر رئيساً للجمهورية، اثنان استشهدا، واثنان مُدّد لهما!
في مؤتمر الطائف العام 1989، توافق اللبنانيون مرة أخرى على تعديل المادة 95 واعتمدوا مبدأ «إلغاء الطائفية السياسية وفق خطة مرحلية»، وتشكيل هيئة وطنية لوضع هذه الخطة وتنفيذها برئاسة رئيس الجمهورية، وتضم الهيئة بالإضافة الى رئيسي مجلس النواب ومجلس الوزراء شخصيات سياسية وفكرية واجتماعية. كما نصت المادة 95 على أنه في المرحلة الانتقالية، والى حين إلغاء الطائفية السياسية، تمثل الطوائف بصورة عادلة في تشكيل الوزارة، وتلغى قاعدة التمثيل الطائفي ويعتمد الاختصاص والكفاءة في الوظائف العامة والقضاء والمؤسسات العسكرية والأمنية العامة والمختلطة، باستثناء وظائف الفئة الأولى أو ما يعادلها، فتبقى مناصفة بين المسيحيين والمسلمين دون تخصيص أي وظيفة لأي طائفة.

وبعد مرور عشرين عاماً على مؤتمر الطائف، لم ينفذ أي أمر في شأن إلغاء الطائفية السياسية: فلا الهيئة الوطنية تشكلت، ولا الخطة المرحلية وُضعت، ولا الكفاءة اعتمدت في اختيار الموظفين، ولا يبدو في الأفق ما يشير الى توافر الإرادة الوطنية لإلغاء الطائفية، ما يدل على أن أهل الطوائف أقوى من أهل الوطنية، وهم الذين يمسكون بجوهر القرار، مهما اختلفت الوجوه والظروف، وان السياسة بالمعنى الوطني قد ماتت لكن لم تُدفن في العلن، والطائفية التي يتبرأ منها الجميع هي التي تتحكم بالوطن والدولة والشعب.
والحقيقة التاريخية أن لبنان وقع ضحية «مؤامرة كبرى»، على ما كتبه موريس الجميل منذ أكثر من خمسين سنة، وقد حبكت القوى العظمى هذه المؤامرة في القرن التاسع عشر، وأكملتها إسرائيل في القرن العشرين. وقد زرعت المؤامرة بذور الفتنة في الكيان اللبناني بصورة دائمة، وحوّلتها الى نظام طائفي هشّ جرى إرساؤه مرة على أساس تقسيم جغرافي كما هي حال نظام القائمقاميتين، ومرة اخرى على أساس تقسيم سياسي كما هي الحال أيام المتصرفية، وبين الفينة والفينة تعود نغمة الفدرالية لتذكرنا بأن صيغة التعايش غير نهائية وقابلة للاستبدال، وان البديل جاهز عند الضرورة.

وبات النظام الطائفي ملتصقاً بالكيان اللبناني منذ اندلاع فتنة 1840 و1860. ويدعي البعض أن تبديل النظام يمسّ الكيان برمته. ولا يعود سبب ديمومة النظام الطائفي الى الانجازات أو الاختراقات التي حققها، بل لأنه يخدم مصالح قوى خارجية وقوى أمر الواقع في الداخل. لقد نجح هذا النظام في الاستمرار طويلاً بفضل تحالف القوى الإقليمية والدولية مع تحالف الإقطاعين السياسي والمالي في الداخل، مما أفسح في المجال لإيجاد أسباب دائمة لتدخل خارجي دائم في الشؤون اللبنانية بقصد دعم حكم الإقطاع الداخلي.
الجواب مرير وهو أن النظام الطائفي حافظ على تعددية الطوائف وعلى مظاهر الديموقراطية فبرر استمراره في منطقة غاب عنها مفهوم التعددية، لكنه لم يخطُ خطوة في الواقع باتجاه إلغاء الطائفية. مسار الألف ميل يبدأ بخطوة، وهذه الخطوة تبدأ بتشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية، والى حين إتمام هذه الخطوة فإن لبنان سيبقى رهينة تحالف الإقطاعين السياسي والمالي، ومهدد بالفتنة في أي وقت.

رغم المشهد المظلم الذي رسمت معالمه العامة، فإني لست متشائماً. ومرد ثقتي بالمستقبل أن حركة المقاومة والتحرير خرجت من صفوف اللبنانيين وانتصرت منفردة على الاحتلال الإسرائيلي، وأَجبرت تل أبيب على الانسحاب من لبنان بصورة أحادية، وصمدت عسكرياً وسياسياً.
إن انتصار حركة التحرير ينبئ بولادة قريبة لحركة التغيير التي تحررنا من احتلال الإقطاعين، وإني على قناعة بأن الشعب الذي صنع التحرير مؤهل لصنع التغيير. وقريباً ستتساقط أوراق الطائفية، ويستعيد اللبنانيون حقهم في الحياة السياسية، ولو طال الزمن.