"تنازل".. وإرادة وطنية
بيد أن زعيم الأكثرية النيابية "المتجددة" سعد الحريري، ومعه مجمل فريق 14 آذار لم يطالبا بهذا الحق، وسارعا للمبادرة باتجاه قيام حكومة وحدة وطنية. وهذا "التنازل" عن الحق، إنما هو تعبير عن إرادة سياسية وطنية تستند الى عدد من العوامل والمعطيات.
خلال المعركة الإنتخابية ثم في "خطاب الإنتصار" مساء 7 حزيران الماضي، عبّر سعد الحريري عن هذه الإرادة معلناً مدّ اليد، وكذلك فعل في خطاب قبول تكليفه تشكيل الحكومة بعد أن سماه ثلثا المجلس النيابي الجديد رئيساً للحكومة. وعندما يعبّر الحريري عن هذه الإرادة، فإنه يكون في صدد تأكيد أنه يأتي الى رئاسة الحكومة ليس لمواصلة مرحلة سابقة بل ليؤسس لمرحلة جديدة.
لا إلتباس في نتائج 7 حزيران
وفي حسابات المرحلة الجديدة، أن نوعاً من "الرهان" إنعقد على الآتي: بما أن نتائج الإنتخابات لا تحتمل أي إلتباس "هذه المرة"، حتى لو كانت 14 آذار تعتبر أن نتائج إنتخابات 2005 لم تكن ملتبسة أيضاً، فمن المفترض أن يُقابل فريق 8 آذار الذي اعترف بالنتائج وسلّم بها، هذا الوضع الجديد غير الملتبس بإسقاط مطالبات تنتمي الى مرحلة سابقة، كان فيها إلتباس من وجهة نظره، لا سيما إسقاط مطلب "الثلث المعطل" لصالح "المشاركة" التي لا تستقيم مع "التعطيل".
دفعة مقدماً
وفي حسابات المرحلة الجديدة التي يأتي الرئيس سعد الحريري ليؤسسها، أن مبادرة أطراف في 14 آذار الى تأييد إعادة انتخاب الرئيس نبيه بري رئيساً لمجلس النواب، ليست فقط مبادرة الى "الإعتراف" بواقعية إنحصار التمثيل السياسي الشيعي في ثنائية "أمل" "حزب الله"، بل هي أيضاً مبادرة الى فتح صفحة جديدة إيجابية في إطار العلاقات اللبنانية اللبنانية، يُفترض أن يقابلها فريق 8 آذار ليس بتسمية الحريري الى رئاسة الحكومة وهذا ما لم يحصل أصلاً لكن بعدم التمسك بالتعطيل وأسمائه غير الحسنى.
الحريري و"الإجماعات"
وفي حسابات المرحلة الجديدة أن الرئيس سعد الحريري آتٍ على رأس الحكومة ليحكم بواسطة "الإجماعات" المتشكلة في الفترة السابقة، بل ليعيد الإعتبار الى تلك "الإجماعات". فإتفاق الطائف والدستور المنبثق منه من الإجماعات، والتزام لبنان بقرارات الشرعية الدولية (والقرار 1701 تحديداً) وبقرارات التضامن العربي (المبادرة العربية) والتزاماته في إطارها من الإجماعات أيضاً. وليس خافياً أن إعادة الإعتبار الى هذه الإجماعات إنما هي من أجل تحكيم "منطق الدولة" وإنفاذ "شروط الدولة" تدريجاً، بحيث يصب الحوار الوطني في جولاته اللاحقة في إطار تدعيم الدولة. أي الحكم بالإجماعات المتوافرة ومتابعة الحوار لإجماعات أخرى، لا إبقاء الدولة في حالة "تعليق" مفتوح.
وفي حسابات المرحلة الجديدة أخيراً أن ثمة "لحظة" عربية "حساسة" يمكن إعتبارها مؤاتية للبنان من زاوية ما يتخللها من اتصالات أو مصالحات عربية عربية، لكن يمكن إعتبارها "دقيقة" من زاوية إشتباك الوضع العربي الراهن مع العديد من العوامل الإقليمية والدولية أو وجوده على تماس معها. وفي جميع الأحوال ثمة حاجة لأن يستفيد لبنان من الإيجابيات ولأن يجهد للنأي عن السلبيات.
باختصار إذاً، إن انتقال سعد الحريري ومعه 14 آذار بعد الإنتخابات الى محاولة تشكيل حكومة وحدة وطنية، ليس تفريطاً بانتصار انتخابي سياسي "بيّن"، بل هو تعبيرٌ عن إرادة سياسية وطنية في إرساء مرحلة جديدة عنوانها الحكم بـ"شروط الدولة"، بدستورها وقوانينها، وبالتزاماتها.
8 آذار لا يلاقي الحريري
قابل فريق 8 آذار وحليفه الإقليمي السوري تلك الإرادة السياسية ـ الوطنية لدى الرئيس الحريري و14 آذار بعدد من الطروحات "غير المسهّلة".
بين الرئيس نبيه بري الذي دعا في وقت من الأوقات الى "خلط" 8 و14 آذار، وبين الجنرال ميشال عون الذي طالب بـ"التمثيل النسبي" في الحكومة(!)، غابت "التحديدات" عن الخطاب العلني لـ"حزب الله"، فيما التزم "الجناح" الذي يرمز إليه سليمان فرنجية بـ"الثلث المعطّل". أي أن فريق 8 آذار لم يذهب الى ملاقاة الحريري.
.. وسوريا تبتز: التسريبات نموذجاً
أما سوريا، وبينما كانت الاتصالات السعودية معها تسعى الى دفعها باتجاه وقف المسار التعطيلي لحلفائها، فقد لجأت الى "لعبتها التاريخية": لا نتدخل في لبنان وندعم ما يتفق عليه اللبنانيون، أما حلفاؤنا فلا نستطيع أن نضغط عليهم ونطالبهم بما لا يمكنهم قبوله! ومآل هذه اللعبة أن يعود التسليم لسوريا بدور مرجعي في لبنان.
وهكذا، لم تخفِ التسريبات السورية في الأيام القليلة الماضية المآل المرغوب سورياً. فقد أوردت التسريبات تلك أن الرئيس الحريري أمام ثلاثة خيارات. الأول أن يشكّل حكومة أكثرية بما أنه يحظى بدعم غالبية نيابية. أي ابتزاز 14 آذار بحقها وتحدّيها بحقها الذي تنازلت عنه بإرادة سياسية ـ وطنية.. فشكّل يا سعد الحريري حكومة أكثرية إن كنت تستطيع! والخيار الثاني أن يتفاوض مع "المعارضة" على شروطها للدخول الى حكومة وحدة وطنية فإما أن يقنعها بالتخلّي عن "الثلث زائد واحد" أو تقنعه بأخذه. أي حكومة التعطيل مرة جديدة! أما الخيار الثالث فهو ان يزور سوريا ويتفاهم معها فـ"تحلّ" له كل المشكلات. أي أن دمشق لا تتدخل ضغطاً على حلفائها، بل تسهّل فقط عندما يسلّم لها البلد سياسياً من جديد، لتثبت أن الفريق الذي انتصر في 7 حزيران سلّم بنسفه الحلّ للشام.
لا مهلة زمنية
حيال ذلك كله، ومن منطلق قناعته بقيام حكومة وحدة وطنية على "شروط الدولة"، ومن منطلق إدراكه أن الإرادة السياسية ـ الوطنية التي عبّر عنها ما كانت ممكنة لولا انتصار 7 حزيران، من الواضح أن الرئيس الحريري قرّر التعاطي مع عملية تشكيل الحكومة بـ"نفس طويل" وبـ"صبر". ليس من مهلة زمنية محددة عنده لقيام الحكومة وإن كان يتمنى تشكيلها في أسرع وقت.
"الجمل عمّك".. واللبننة
كان والده الرئيس الشهيد رفيق الحريري يجيب من يستفسر منه عن سرّ هدوئه في الملمات بالقول "ولا يهمّك الجمل عمّك"، إشارة الى قوة الصبر والاحتمال لديه. وعلى طريق والده، قرّر سعد الحريري الإدارة الصابرة الهادئة. قرر أن يضغط على الضغوط أي أن يواجهها بالصبر. وقرر أن الوقت سيكشف من يعطّل قيام الحكومة. وقرر أن لبننة الاستحقاق الحكومي، بالاستفادة من كل العوامل المساعدة، هي الطريق الى تحميل كل فريق مسؤولياته. ويعتبر أنه يضع من يُمكن أن يعطّل أمام تحدّي القدرة على التعطيل. ففي هكذا مسار، خصوصاً بتضامن 14 آذار ووحدتها لبنانياً وبالتضامن العربي والدولي خارجياً، إن من يربح "السباق" هو الصابر فعلاً