ماجدة الرومي
(في الكلمة التي ألقتها في الجامعة الأميركية في 27 حزيران بعد منحها الدكتوراه الفخرية)
تكاد "حزورة" زهرة المارغريت: "بتتزوج"، "بتترهّب"، تتحوّل هذه الايام "يوم رغد" و"يوم نحس"!
وكنا فرحنا بأن حرب الشعارات و"التحريضات"، على أنواعها، قد حطّت رحالها وهدأت العصبيات الشيطانية، الطائفية والمذهبية والقبلية وحتى الإنعزالية التي تحدّث عنها الزعيم وليد جنبلاط بقوله "إن 14 آذار فازت، ولكن كان فوزاً لعصبيات في مواجهة عصبيات أخرى". وبادر النائب سعد الحريري فور انتهاء العمليات الانتخابية، مساء الأحد 7 حزيران، الى مدّ اليد الى الطرف الآخر ودعا الى الإصغاء إليه والنظر الى الإرادة الوطنية التي تجلّت ذلك النهار، داعياً الى التشمير عن السواعد ورصّ المناكب من أجل العمل وتوحيد الصفوف.
إلا أن احداً لم يحسب حساباً بأن الشياطين، وخصوصاً منها النوع الغريزي الذي أُوقظ خلال فترة الانتخابات على أساس أن الغاية تبرر الواسطة، وأن كل شيء محلّل إذا كان يؤدي الى الفوز – يصعب إعادته بسهولة الى أوكاره ومغاوره.
وإذ ظُنّ أن إلقاء النائب الحريري كل ما جرى خلال الانتخابات وراءه بكل ما فيها من أمور مشروعة وغير مشروعة، قد ذهبت الى غير رجعة، جاءت انتخابات رئاسة مجلس النواب وما رافقها، وخصوصاً الأصوات التي نالها الرئيس نبيه بري، لتكشف أن الشياطين قد انتقلت من ساحة الى أخرى، وان التحريض والإثارة والشحن النفسي لا تُمحى كما يُمحى الطبشور عن اللوح الأسود.
وما جرى في محلة عائشة بكّار هو مثال بسيط لتنفيس الاحتقان الذي ولّدته الانتخابات، وقد عبّر عنه الزعيم وليد جنبلاط وحذّر منه أكثر من مرة. حذّر منه في الشارع الإسلامي. كما حذّر منه الشارع المسيحي، رغم احترامه للبطريرك الماروني الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير، على خلفية دعوته اللبنانيين عموماً، والمسيحيين خصوصاً، الى عدم التصويت لمرشحي المعارضة لأن فوزهم في الانتخابات يهدّد الكيان وعروبة لبنان. وكان جنبلاط يدرك في قرارة نفسه أن ما ورد على لسان البطريرك هو من "صنع" سواه، وخصوصاً أن هذا "السوى" بينه وبين العروبة وحتى الكيان حساباً قديماً وعسيراً.
وقد كتب جنبلاط في "الموقف السياسي" في جريدة "الأنباء"، لسان حال الحزب التقدمي الاشتراكي، في 23 حزيران: "إننا نقدّر عالياً كل المواقف الوطنية التي تصدر عن البطريرك صفير، وهو الذي قاد المصالحة التاريخية في الجبل لطي صفحة الماضي التي كنا نفضّل ألا تعود بعض الأصوات (هذا "السوى") لاستحضارها في معرض الدفاع عن البطريرك. فمرحلة مطلع الحرب الأهلية كان الهدف فيها المحافظة على عروبة لبنان في مواجهة مشاريع التفكيك والتقسيم التي عارضتها الحركة الوطنية بقيادة كمال جنبلاط الذي رفض كذلك الصفقة التي أدت الى نظام الوصاية".
وإذ أسف جنبلاط لأن يكون البطريرك قد "انزلق" الى هذا المنحدر الخطر بتأثير ممن خاضوا في نظره الحرب ضد عروبة لبنان، وعرّضوا الكيان للخطر بإدخال السوريين الى لبنان بحجة وضع حد للانفلاش الفلسطيني، بينما الحقيقة كانت القضاء على الحركة الوطنية التي قاومت إخضاع لبنان لنظام الوصاية السوري في حزيران 1976، مما أدّى الى اغتيال الزعيم كمال جنبلاط على أيدي السوريين في آذار 1977، وجعل لبنان يرزح تحت نير نظام ديكتاتوري طوال ثلاثة عقود. ثم قال: "لا نستطيع في لبنان ان نقبل بفكرة الديموقراطية من أجل الديموقراطية بمعزل عن الثوابت الوطنية. ولا نستطيع ان نقبل بوضع الديموقراطية اللبنانية في مواجهة العروبة والمشروع العربي وفلسطين. هذا كان موقفنا وسيبقى، ولا سيما ان القاعدة الأساسية التي وضعها كمال جنبلاط بأن لا تناقض بين اللبنانية والعروبة لا تزال سارية شرط إدراك سبل التوفيق بينهما وعدم جعلهما في مواجهة بعضهما بعضاً"، مشيراً الى أن اتفاق الطائف قد "ثبّت عروبة لبنان، وأكد اتفاق الهدنة مع إسرائيل". وقد حذّر البطريرك وذلك "السوى" المحيط به بأن "كل هذا لا يعني القبول بنظرية تحييد لبنان"، وما يرافقها من مشاريع مناهضة للعروبة قد تؤدي الى "الفدرلة".
وكان قال للبطريرك ولذلك "السوى" إن موضوع المقاومة مرتبط بالخطر الإسرائيلي المتفاقم والذي وصل الى حدّ التدخل في تأليف الحكومة، موضحاً: "منذ صدور القرار 1559 قلنا إن قضية السلاح لا تُحلّ إلا بالحوار. واليوم نقول: السلاح يعالج وفق الظروف اللبنانية والإقليمية من خلال الحوار للوصول الى أن يعزز هذا السلاح قدرة الدولة في مواجهة إسرائيل في يوم ما".
وجاء كلام جنبلاط أخيراً على التكتل الجديد الذي يقوده "تيار المستقبل" تحت شعار "لبنان أولاً"، في إطار "نقزته" من موضوع التحييد بمعنى الانفصال عن العروبة المرتبطة في نظره بقضية فلسطين ومواجهة المشروع الصهيوني والأطماع الإسرائيلية في لبنان.
وأخذ في دربه البطريرك الذي سبق له أن حذّر من أن ثمة في لبنان، داخل المعارضة تحديداً وبين الشيعة "الفرس" والمسيحيين في الدرجة الأولى، من يهدد الكيان وهوية لبنان العربية، عندما قال: "لقد غابت في مرحلة معينة الشعارات التي نادينا بها، شعار العروبة وفلسطين، العروبة المنفتحة. وأصبحنا اليوم في التزمّت والتقوقع وشعارات الكيانية الضيّقة: "لبنان أولاً". فلا معنى للبنان دون فلسطين، ولا معنى للبنان دون الوحدة العربية الكبرى. ويا للأسف عدنا الى احياء التعصّب، الى المذهبية".
بكلام آخر، إننا أمام "إنعزالية جديدة" يحاول سيّد المختارة التصدي لها والتنبيه إلى أخطارها.
لقد جعلنا جنبلاط نفهم، خصوصاً بعد اللقاء الذي جرى بينه وبين الامين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله، ثم اللقاء بين نصرالله ورئيس "تيار المستقبل" النائب سعد الحريري، ما حصل في مجلس النواب، ثم في عائشة بكار، وما يجري حالياً في دمشق حول تأليف الحكومة وكيف أن لبنان وُضع في موقع مميز داخل المنظومة العربية بفضل المقاومة التي تحولت قوة اقليمية تهابها إسرائيل الى درجة خوفها من تأثيرات مشاركة ممثليها في الحكومة.
اننا امام نوع من الفيديرالية التي تضم لبنان وسوريا والسعودية، وان الأمور تقرر بالتفاهم في ما بين الأطراف الثلاثة، خصوصاً في موضوع توحيد الموقف الداخلي في مواجهة إسرائيل وتهديداتها المستمرة.
وإذ تدعو السعودية، ومن معها من العرب والاجانب، سوريا الى التدخل لتذليل العقبات أمام تأليف حكومة يرئسها ابن رفيق الحريري الذي لم يتوقف لحظة عن اتهام رأس النظام السوري بشار الأسد بإصدار أوامره لاغتيال والده، فضلاً عن اتهام الرئيس الاسد ونظام حكمه بأنهما وراء مجموعة الاغتيالات التي كان ضحيتها أحرار "ثورة الأرز" – يتساءل كثيرون في لبنان عما يجري، وخصوصاً في المعارضة التي خاضت مواجهة في الانتخابات مع الأكثرية على أساس انها، اي المعارضة، تعمل لإعادة نظام الوصاية السوري الى لبنان، وإخضاع البلد لحكم "دويلة حزب الله" والولي الفقيه الإيراني.
كذلك هم يتساءلون، اذ يشاهدون صورة الرئيس السوري بشار الاسد مستقبلاً نجل الملك السعودي الامير عبد العزيز بن عبدالله، موفداً لوالده لمناقشة "التطورات على الساحة اللبنانية" مع رأس النظام السوري، يرافقه وزير الإعلام السعودي الدكتور عبد العزيز الخوجة، السفير السعودي السابق في بيروت والخبير الكبير في الشؤون اللبنانية – يتساءلون: ماذا عدا مما بدا؟ أمس كان فريق الموالاة، ومعه البطريرك الماروني، يقرعون طبول الحرب لمواجهة عودة الجيش السوري الى لبنان، وتهديد النظام الفارسي التشيّعي ومعه الولي الفقيه الكيان اللبناني وعروبة لبنان، بينما اليوم يتدخّل العالم الأميركي (بإعادة السفير الى دمشق) والأوروبي والفرنسي (سفير جديد ومبعوثون الى عاصمة الأمويين)، ومعهم السعودي (بعد قرار تعيين سفير في دمشق)، مع سوريا للتعاون معهم في لبنان الى حد جعل دمشق تستقبل الرئيس المكلّف تأليف الحكومة سعد الحريري، وترك موضوع اغتيال والده وكشف الحقيقة واحقاق الحق للمحكمة الدولية؟
ماذا يجري؟
بعض التعقّل والواقعية، والنظر الى ما هو أبعد من الأنوف، الى حيث اسرائيل تستعجل قيام الدولة اليهودية الصافية على أنقاض الحقوق العربية، وفي مقدمها الحق في الدولة للفلسطينيين والعودة، مما يفرض التوطين ويجعله واقعاً لا مفر منه… رغم أنوف العرب واللبنانيين.
اننا حقاً في زمن العجائب!